محمد الحارثي: أنا أبو مسلم البهلاني

محمد الحارثي: أنا أبو مسلم البهلاني

01 يونيو 2020

محمد الحارثي وأبو مسلم البهلاني

+ الخط -
مرّت قبل أيام ذكرى رحيل الكاتب العُماني محمد الحارثي (توفي في 26/5/2018)، الشاعر الذي ترك للقراء، بالإضافة إلى دواوين ومقالات ورحلات، كتابا قضى في إعداده قرابة الثلاث سنوات، "الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني"، وهو كتاب في 900 صفحة عن الشاعر العُماني الكلاسيكي أبو مسلم البهلاني، الذي عاش معظم حياته في المنفى الأفريقي ومات فيه، في زنجبار التنزانية تحديدا، حين كانت تحت الحكم العُماني حتى وقت قريب، وقد أسّس فيها العُمانيون حياة ثقافية مهمة، وهو ما لم يستطيعوا أن ينجزوه في وطنهم الأم، مطابع ومجلات من أهمها "الفلق" و"النجاح"، كما تركوا في موطنهم الأفريقي "أنواعا" من الأدبيات باللغة العربية تؤكد وتبرهن على تفاعلهم الإيجابي والمعرفي في وجودهم الأفريقي.
وفي "الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني"، تجاوز الحارثي مستوى التحقيق، فقد أوْلى قصائد أبي مسلم عناية ملحوظة، تجميعا وشرحا وتأملا، ويكفي هنا أن يُلاحظ أن مقدمة الكتاب وحدها تزيد على المئة صفحة. وحين أصدر الكتاب، كان يحدوه ليس فقط إحساس القيام بواجب إعادة الاعتبار لتراث البهلاني الشعري الذي طاوله التشويش والابتسار، ولا أيضا الصبر في تقفي هذا التراث وجمعه بين دفتي كتاب مشروح، إنما كان يحدوه مزيج مركّب من المشاعر، فذات يوم التقيته في مقر استراحة "واحة نهار" في ولاية إبرا، كنت حينها أدبج مجموعتي القصصية "ساعة زوال"، وحين كنا نمشي قبيل الغروب فوق أسنة التضاريس الجبلية التي كانت ضمن حدود الاستراحة، ونتنقل من حديث إلى آخر، عرّجنا على الكتاب، فقال لي إن أبا مسلم كان في دواخله يشعر طويلا به (محمد نفسه). لقد تحول، إذن، أبو مسلم، الشاعر الكلاسيكي الذي برع في كتابة نوعين شعريين قلما يلتقيان بسهولة، الثورة والتصوف، تحوّل إلى قرين روحي لمحمد الحارثي. أتذكر هنا مقولة صاحب رواية "مدام بوفاري"، فلوبير، عن بطلة روايته: "مدام بوفاري هي أنا". كما أتذكّر قول دوستويفسكي في إحدى رسائله إلى أخيه، عن بطل روايته "المزدوج" إن "غوليادكين هو أنا". لا بد وأن البهلاني سكن طويلا عقل محمد الحارثي وقلبه قبل أن يكتب عنه.
لقد تداخلت روحا الشاعرين، وامتزج طيف الشاهد بالغائب. حين رأى فيه استثناء عُمانيا نادرا، حيث امتازت المسيرة الإبداعية لأبي مسلم بروح التجديد، على الرغم من كونه فقيها وقاضيا، ولكنه في شعره طرق آفاقا ثقافية جديدة، خصوصا في قصائده السياسية الاستنهاضية حامية الوطيس، كقصيدته المسماة النونية. وكان في قصائده الصوفية مبدعا، ولم يكن يرتكن للعادي والمألوف من عبارات مناجاة الحضرة العلوية، بل يشق له طريقا متفردا في ذلك. ولم يكن يتأتى للبهلاني هذا التوفيق المحكم بين الدنيوي والمتعالي، لولا مخزونه الثقافي والوجداني الكبيريْن. ولولا إلمامه ببحور الشعر العربي وفنونه المتشابكة. مكّنه ذلك كله من التعبير الحر عن مشاعره الوطنية، ومكّنه، في الوقت نفسه، من الاغتراف من روضة العشق الإلهي وفنون المكاشفة الروحية. يقول في بيت شعري صوفي: من كمثلي وذا الشراب شرابي/ والنبيون كلهم ندماني.. كما تتكرر كلمة "خمرة الله" في بعض قصائد أبي مسلم. كقوله: عصرت لكم من خمرة الله صفوها/ فموتوا بها سكرا، فما السكر مأثما.
حين أصدر الحارثي هذا الكتاب عن دار الجمل في العام 2010، صدر لي في العام نفسه عن الدار نفسها روايتي "خريطة الحالم". وكنا نلتقي في مقر دار النشر في معرض مسقط. وللأسف كنت آتي من أجل توقيع الرواية، وكان يجلس بدون كتابه الذي كان مركونا في بقعة مظلمة من مخازن المعرض، قبل أن يُفرج عنه لاحقا.
وخيرا فعلت اليونسكو بإدراج اسم أبي مسلم البهلاني شخصية عُمانية مؤثرة عالميا، بعد عالم اللغة ومؤسس علم العروض الفراهيدي، والطبيب والصيدلاني راشد بن عميرة، والمصلح نور الدين السالمي، والفيزيائي والطبيب ابن الذهبي.

دلالات

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي