ما يكتبه البرادعي

ما يكتبه البرادعي

05 مارس 2019
+ الخط -
يغرّد، ويدعو إلى السلام المجتمعي، إلى التصالح.. بديهي أن نقول إن محمد البرادعي مهم، ولذلك يزعج عديمي الأهمية. الأكثر بداهةً أن نقرّر أن أكبر جرائم الانقلاب في مصر كانت انقسام المجتمع وحالة العداء التي سادت بين الناس وبعضهم بعضا، في البيت الواحد، تجدهم يتناحرون، على عبد الفتاح السيسي ومحمد مرسي، وآلاف التفاصيل. بعض الجيران أبلغوا عن جيرانهم، وآخرون ينتظرون الحل، لا ليهنئوا بعودة المقبوض عليهم، بل لينتقموا من المبلغين. المبلغون أنفسهم لم يفعلوها من موقع المخبر، إنما من موقع الوطني المخلص الذي يشارك في معركة بلده المصيرية. أحدهم أبلغ عن ابنه، والآن يبكي أمام القاضي في كل جلسة، يتوسّل أن يتركوه. كان المسكين يتصور أنه يبلغ الدولة التي ستحنو على المصريين، وتعيد ابنه إلى جادّة الصواب، بعد أن تقرص أذنه، وعاش ليرى العصابة التي اختطفت بلاده قبل أن تقنعه بالمشاركة في حرق زرعة العمر..
ما يكتبه البرادعي هو الخطوة الأولى لإنهاء هذا كله، لقد وضع السيسي كلا منا عقبة في طريق الآخر، وأولى خطوات التحالف أن نزيل هذه العقبات. الكلام عن السلام المجتمعي ليس مدرسيا، كما يحاول بعضهم أن يصوّره. صيغ البرادعي ليست على مقاس الغضب الساطع، صيغه تخصّه، تخصّ تجربته، سنه، موقعه، ليس بالضرورة أن يتحوّل الجميع إلى هتيف مظاهرات. الغاوي ينقط بطاقيته، غير صحيح أن البرادعي كان جزءا من المشكلة فلن يكون جزءا من الحل. مرة أخرى، نتجاوز الخطوة الأولى. كان البرادعي جزءا من الثورة، يشاركه آخرون، وكان جزءا من مشكلاتها يشاركه آخرون، وهو الآن يريد أن يكون جزءا من الحل مع آخرين، الآخرين أنفسهم، وهذا ما يقلق خصومه، سواء من معسكر الدولة أو من فروعه داخل معسكر "الآخرين".
جاءت الثورة بقيادتها ونخبها وفنونها، وجاء الانقلاب بأحمد موسى والدكتورة بنت الباشمهندز و"تسلم الأيادي". ولكن هذا ليس كل شيء، إنما كان الصدع الذي يحاول البرادعي رأبه الآن فرصة الانتهازيين للحاق بقطار الثورية، في وقتٍ كان ملايين المصريين الذين منحوا الإخوان المسلمين ثقتهم في ستة استحقاقات انتخابية ينقلبون عليهم. كانت الجماعة تعاني، ربما لأول مرة في تاريخها، من قلة الأنصار، أي واحد قاعد على القهوة يؤيد مرسي من موقع غير المنتسب للجماعة رفعوه على الأكتاف، ولو كان لا يفك الخط، ولا يعرف من مرسي ومن السيسي وما الذي يحدث. مرّت من ثغرات هذه الحالة العصابية جيوش الطفيليين، واستوطنت و"لبدت"، ولم يعد من سبيلٍ إلى تجاوزهم. استثمروا في غضب الشباب وحنقهم، وكدّسوا الملايين على حساب استمرار المشكل، وحاجة المأزومين إلى الصراخ والعويل وفش الغل. يحاول البرادعي الآن ومن معه أن يتجاوزوا هذه الحالة، فكيف يتركونه، وهو يهدّد لقمة عيشهم التي لن تعود لو عادت الثورة إلى الميادين، فلا علاقة لهم بالميادين، ولا أحد يعرفهم هناك. وبمجرّد أن ينقشع هذا الغمام، وتبدو الرؤية واضحة أمام الشباب، لن يتذكّرهم أحد، فلم لا يسبون الرجل، ويستمطرون عليه اللعنات ويغرون به؟
الشيطان في التفاصيل، ليس لعدم أهميتها. ولكن لأن تغييب تفصيلةٍ واستحضار أخرى أذكى أنواع الكذب. يمكنك أن تخبر الشباب بأخطاء فريق، من دون أن تستدعي سياقها، فتتحول المعركة إلى حق وباطل، وملائكة وشياطين، ويغيب عن الملائكة الأطهار أن كل ما ينقمونه على غيرهم فعلوه قبلهم ومعهم وبعدهم. البرادعي فعل، وجبهة الإنقاذ فعلت، وعبد المنعم أبو الفتوح والإخوان، ومرسي وخيرت الشاطر، والشرعية والرئيس المنتخب وأول تجربة، من يأبه لذلك كله، والنَّاس تموت تحت القطارات وفوق طبلية الإعدام.
الناس تموت لأنها خذلت مرسي؟ بل الناس تموت لأننا جميعا خذلناهم، كفى. البرادعي صح، اتركوه يكتب، وافعلوا مثله، وتعلموا التجاوز، فلن يتجاوزنا بؤسُنا قبل أن نتجاوزه، والله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان