ما صنعته الجوافة بالأدباء (1)

ما صنعته الجوافة بالأدباء (1)

28 يوليو 2020
+ الخط -

العبد لله ممن يتبجحون بحب الجوافة، ومن الأدباء أناسٌ تجمعهم بالجوافة كيمياء خاصة، كيمياء تفقع المرارة أحيانًا، تضيِّع عليهم فرصًا يتحيَّنها آخرون، لكن القلب وما يريد، حتى وإن كان ما يريده.. جوافة! من الأدباء من فقد حبًّا -فضلًا عن أنه فقد صوابه- يتلهف عليه غيره و"يتشحتف"، ومنهم من لم يجد إلا الجوافة أمامه فعشقها بجنون، حتى قيل إنه "الأدب في كيس جوافة".

يدخل في عِداد الأدباء المُتيمين بالجوافة أستاذنا إبراهيم عبد القادر المازني، وعمنا محمود السعدني، ويحشر كاتب هذه السطور اسمه بين رابطة محبي الجوافة! وإن كتب العميد أحمد أمين -من باب التجديد الأدبي- عن مكانة التفاح في الأدب العربي، فلا بأس أن نكتب عن الجوافة، ربما نضيف فصلًا جديدًا في فصول موضة التجديد.

ويرسم لنا المازني لوحة للجوافة، والتي عرفتها مصر سنة 1825 من البوابة الهندية، وفي عهد محمد علي باشا، وصدق القائل "أنت لا تعرف ما تحب إلا إذا وجدت ما تحبه أكثر"، وحتى الفقرة قبل الأخيرة سيتولى المازني كتابتها، وسيضع بين أيدينا طرفًا من علاقته بمحبوبته ومعها الجوافة، ثم سيوازن بينهما، وإن كان القلب يعشق كل جميل؛ فأيهما سيعشقه قلب المازني أكثر؟

يقول المازني: وحدث مرة أخرى أن كلفتني (يقصد صفوة مزز مصر) أن أشتري لها فاكهة، وكنت أعرفها تحب الجوافة حبًا جمًا؛ فانتقيت حباتٍ طيبة الرائحة، ذكية العبق، واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام؛ وذهبت بحملي إليها، ودخلت به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها: (قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العين. لقد حضر سيدك، ونور عينك اليمنى -واليسرى أيضًا في الحقيقة- ومعه حمل بعير من الجوافة بل من أبدع أنواعها).

الحق أني لا أفهم النساء.. وهل تستطيع أنتَ أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة بين رجل وامرأة من أجل أُقَّة من الجوافة ثمنها قرش ونصف قرش؟ إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك

فذهبت الخادمة وأبلغتها الرسالة، فأطلت تلك من باب غرفتها -بوجهها فقط- وصاحت وهي فرِحة: صحيح؟؟ جوافة؟؟ حلوة؟؟)؛ ففتحت (المازني) الكيس وأخرجتُ واحدة ورفعتها لها بين أصابعي، وأدرتها أمام عينها، فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: (حالًا.. حالًا.. دقيقة واحدة)، ودخلت.

وبقيت أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ، فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما علق به من التراب، ومسحت الحذاء أيضًا، مسحته مرتين حتى صار جلده كالمرآة، وحتى حدثتني نفسي أن أخلعه أنظر إلى وجهي فيه، ولكني خفت أن تدخل علي وأنا أفعل ذلك..

وتأملت الحرير الذي كسيت به الكراسي، ورفعت طرف السجادة وجسستها وفركت وبرها بأصابعي، ثم لم أجد شيئاً آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططت على كرسي كبير وثير، واضطجعت وفي مأمولي إذا نمت ألا توقظني حين تدخل، ولكني لم أنم لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه مفتوحًا، فتسوّر إلى أنفي أريجها، وملأ صدري وأدار رأسي؛ فأحسست بالجوع ولكني ضبطت نفسي وشددت على اللجام، وقلت: (اللهم اخزك يا شيطان!).

غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة؛ فجعل يقول لي: (وما حبة واحدة تأكلها فتنيم بها هذه الثعالب التي تمزق أحشاءك؟) فقلت: (والله لقد صدق اللعين.. فلآكل حبة واحدة من الجوافة اللذيذة.. ثم إن هذا عدل.. أفأحملها وأُحْرَمها؟ وأكون كالعير التي يقولون إنها يقتلها الظمأ، وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب؟ أو كالحمار الذي يحمل أسفارًا؟).

ومددت يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناولت منه من غير أن أنظر إليه، وطابت الجوافة في فمي؛ فأقبلت عليها آكل وآكل -ولكن بغير احتفال والله- وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهلةً مرحبةً باسطةً يديها للسلام، ثم إذا بها تقف في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جدًا عليّ، فلم أستغرب، فقد كان فمي محشوًا وأسناني تعمل دائبة كالليل والنهار.

وتنبهت إلى حالي حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعت ما بقي في فمي بسرعة، ومططت عنقي ليسهل الانزلاق -أعني البلع- وانحنيت على الكيس؛ لأتناوله وأقدمه إليها وأسرها به -أعني بالجوافة التي فيه- وإذا به ينطبق بين يدي؛ لأنه فارغ!!

الحق أقول إني بُهت، فما كان يخطر لي في بال أن آكل كل هذه الجوافة، ولو أن إنسانًا راهنني أن أفعل لفزعت وأشفقت على نفسي، ولكن هذا الذي لم أكن أحسب أن لي قدرة عليه وقع اتفاقًا، وقد سرني هذا في الحقيقة؛ لأنه كان من بواعث الاطمئنان لي على صحتي، وكان جديرًا بها أن تهنئني؛ فإن الجوافة كثيرة، وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه تافه لا يستحق الذكر.

ولكنها وجمت يا أخي! لا أدري لماذا؟ ووقفت جامدةً لا تتحرك كأنما سُمِّرت إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخفت أن يكون قد أصابها شيء، لا قدر الله، وأقبلت عليها أسألها عما جرى لها؛ فلما أفاقت أشارت بيدها -دون أن تتكلم- أن اذهب.. اذهب ولا تُرِنِي وجهك! فاستغربت أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبشر، الذي كان يفيض به وجهها وهي مطلة به من بين مصراعي الباب، وتمنيت لو أنها تبقى أبدًا ووجهها بين المصراعين، ليبقى لي بشرها وحلاوة ابتسامتها!

الحق أني لا أفهم النساء.. وهل تستطيع أنتَ أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة بين رجل وامرأة من أجل أُقَّة من الجوافة ثمنها قرش ونصف قرش؟ إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.

هذا ما فعلته الجوافة بالمازني، أنسته الحُبَّ والحَبَّ، وطردتها صاحبته من بيتها لأجل الجوافة، وتناست أننا جميعًا طُردنا من الجنة لأجل التفاح لا الجوافة، وإن كانت الجوافة بريئة مما صنعه المازني، وأيّ حبٍ هذا الذي يفتح الشهية؟! سامحك الله أيها المازني، وفي المرة المقبلة لنا جولة مع أديب آخر أوردته الجوافة الموارد!