ما أنا بكاتبة..

ما أنا بكاتبة..

11 أكتوبر 2014
+ الخط -

صوت السوط والصراخ من الألم صمّ أذني، كما أن قدميّ بالكاد يحملانني من شدة الوهن، وقلبي يرتجف من بين ضلوعي من شدة الخوف، ولكن، لم تمنعني هذه الأحاسيس من أن أبحث عن أي مكان، أختبئ فيه، قبل أن تلسعني ضربة من ضربات السياط التي توزع، بشكل هستيري وبدون انتقائية، وهي تأمر كل من يمر بجانبها، رجلاً أم امرأة، طفلاً أم شيخاً، بأن يكتب. ألا ما هي حكاية "اكتب" المقرونة بلحن السوط وصرخة الألم؟ وأين أنا؟ وما حكاية هذه القرية المجنونة العجيبة؟

كل ما أعرفه أن سيارتي تعطلت، وقفت، فجأة، لتوصلني إلى هذا المكان المشؤوم. كنت أريد أن أمضي، نهاية الأسبوع، في أحد الفنادق الفاخرة في مدينة مراكش المدللة، أردت أن أمنح نفسي لحظات من الترف، والإحساس بالذوق الرفيع. منذ زمن، وأنا أشعر بأنني على حافة الانهيار. أتوق إلى شيء مختلف، سماع موسيقى راقية، قراءة كتاب نادر الوجود، مصادفة معرض فني ملهم. الحقيقة أن حكايات شباط أتخمتني، وجعلتني أشعر بالنفور من كل شيء. أعرف، في أعماقي، أنه ليس حميد شباط وعبد الإله بنكيران من يزعجانني فعلا.

ولهذا، من دون أن أشعر، أجدني أسقط عليهما كل المشكلات السياسية والاقتصادية، وأفرغ فيهما كل حنقي وغضبي وضجري. أعرف، في أعماقي، أن ذلك لن يفيد في شيء. أعرف أن ما تقرفني، فعلاً، أشياء أخرى غير مرئية وغير مفهومة. الأزمة الاقتصادية العالمية التي ظهرت، فجأة، الثورات العربية، وما صدر، في وجهها، من ثورات مضادة، تسارع الأحداث في الشرق الأوسط، المناوشات التي تصيب المغرب بين فينة وأخرى، والتي تبدو مفتعلة وغير بريئة، اعتقال علي أنوزلا، ويجعلني دائماً أتساءل مع نفسي كيف يمكن أن نسجن، من أجل كلمات مبعثرة هنا وهناك فوق شاشة الحاسوب؟

فكرت بسخرية كيف أن هذه القرية الملعونة تعذب أهلها ليكتبوا، وأنوزلا في السجن، لأنه يكتب. ولكن، أليس صحيحاً أنه، في نهاية المطاف، وإن اختلفت الأهداف، فالوسيلة واحدة: القمع والترهيب.

اشتد صوت السوط أكثر، واحتد معه الصراخ أكثر، ما جعل العرق يتصبب من جبيني، من شدة الرعب، وبدا لي، في هذه اللحظة بالذات، أن كل ما كنت أفكر فيه، في الماضي، ترف فكري، لا قيمة ولا معنى له. أخذ عقلي يشتغل بسرعة الضوء، لعله يهتدي إلى خطةٍ، أنجو بها بجلدي من هذه القرية البلهاء. كنت أريد فقط أن أعيش، وألا تلسعني ضربات السوط.

فجأة، توقف الصراخ، وتوقف معه صوت السوط، وذهب الجلادون إلى حال سبيلهم، بخطى آلية، وبدون أن ينبسوا بأدنى حرف إضافي، واختفوا في الأفق، ولم يعد لهم أثر، كأنهم لم يكونوا قط. وتفرق الأهالي، وعم القرية صمت رهيب. ولا مخلوق يتحرك. فقط أوراق الأشجار تتمايل، وكأنها ترقص على نغمات لحنٍ حزين.

تذكرت سيارتي المعطلة، وقررت أن أستجمع كل قواي لمحاولة إصلاحها، لعلي أتمكن من مغادرة القرية والهروب إلى الأبد. ولكن، من دون جدوى، النساء والميكانيك أمران لا يجتمعان. ندمت لماذا لم أرغم نفسي على أخذ دروس في ميكانيك السيارات. وشعرت بغصة في حلقي، وبرغبة شديدة في البكاء. لعنت حظي العاثر، وصرخت بحدة ألوم نفسي لماذا لا أشبه بطلات الروايات، ولماذا بدل أن يمد لي رجل قوي ووسيم يده، ليساعدني في إصلاح سيارتي، كما في الأفلام، أجدني وحيدة مع سيارتي، في قرية محاطة بتلة من الحمقى والمعتوهين؟

اجتاحتني مشاعر كثيرة مختلطة، بين الإحباط والقلق واليأس والضياع. جلست القرفصاء متكئة على عجلة السيارة، أركز نظري على أوراق الأشجار، وهي تتمايل، وذهني شارد تماماً. تمنيت، في هذه اللحظة، لو كنت ورقة من أوراق الأشجار، مختفية تماماً عن الأنظار، تعيش حياتها الطبيعية من دون أن يضغط عليها أحد، أو يحرجها أحد، أو ينتبه إليها أحد. ذهني كان مركزاً فيما يمكنني أن أقوله لأهالي هذه القرية، وهل سيفهمونني؟ تخيلتهم متوحشين، كالهنود الحمر في الأفلام الأميركية. وأخذت أتخيلهم سيختطفونني، وسيعذبونني وسيخضعونني لطقوسهم الغريبة. وكم من الوقت يمكنني أن أعيش كالفأرة، مختبئة في جحري بعيدة عن عيون أهالي القرية؟ وماذا لو عثر علي أحدهم، حتماً، سيعتبرني فريسة، أو جاسوسة، وقد يجعلون مني أضحيتهم؟ ولو طلبت منهم المساعدة بلطف، هل سيتعاملون معي بالمثل؟

وأنا أفكر في كل الاحتمالات بقلق شديد، وصل إلى مسامعي صوت ضحكاتٍ رقيقة مرحة، وسمعت هرجاً ومرجاً وصخباً، أدرت عيوني، أبحث عن مصدر الصخب، فإذا بي أُفاجأ برؤية أناسٍ كثيرين، يرتدون أجمل الثياب، وكأنهم متأهبون لحضور حفل كبير، ويتهامسون ويضحكون، ويتحدثون بمنتهى اللطف والمرح. إنهم الرجال والنساء والشيوخ والأطفال أنفسهم الذين كانوا يصرخون، قبل قليلٍ، من الألم، ويصيحون "ما أنا بكاتب، ما أنا بكاتبة".

بينما كنت أحدق في المنظر باستغراب كبير، فإذا بنظراتي تلتقي بنظرات إحدى السيدات، ثم أخذت تهمس إلى زميلتها، وهي تشير إلي، وفهمت أنهن يتحدثن عني، وبسرعة البرق، انتشر الحدث بين الأهالي، ووجدت نفسي محطّ فضول كل أهالي القرية، وهم يحدقون فيّ باستغراب. رأيت شخصاً يعطي أوامره لجماعة كانت بقربه. كان واضحاً أن لذلك الشخص مكانة مرموقة جدا في القرية، لأن الجميع كان يحاول أن يتقرب إليه، كما أنهم كانوا يتحدثون إليه باحترام وخوف كبيرين. كان قصير القامة وضخم الجثة وله شارب كث، ويرتدي هنداماً أنيقا ومزركشا بألوان كثيرة مبهجة، منحته طلة شبابية، لا تناسب سنه، ولكن جعلته جذاباً وحيوياً.

رأيت الجماعة تتجه نحوي، وكلما اقتربت مني بدا لي أن نهايتي اقتربت. ولما أصبحت أمامي، اشتد بي الخوف أكثر، لكني وجدتهم يخبرونني، بمنتهى اللطف والترحاب، بأن كبيرهم يدعونني لأشارك معهم حفلهم بمناسبة انتصارهم على أعدائهم. استغربت كيف أنهم لم يهتموا بمعرفة اسمي، كما لم يسألوني حتى من أكون، ولا من أين أتيت، ولا ماذا أفعل هنا. و لم يكن لي خيار آخر، إلا أن أذعن لطلب كبيرهم، وأنا أدعو الله أن أحسن التصرف، وألا أسبب لنفسي مأزقاً دبلوماسياً حرجاً، قد يهدد حياتي. وعدت نفسي أن ألتزم الصمت والحذر، وألا أتحدث، أو أعلق، أو أسأل، إلا إذا طُلب مني ذلك، كما وعدت نفسي أن أحاول أن أحترم ثقافتهم وتقاليدهم، مهما بدت لي غريبة ومختلفة عن قناعاتي. ففي النهاية، تلك قريتهم، وهم أحرار في اختيار طريقة حياتهم.

801B3919-7232-4F11-BE63-30C4073E7E55
801B3919-7232-4F11-BE63-30C4073E7E55
أمل مسعود (المغرب)
أمل مسعود (المغرب)