حبات القمح

حبات القمح

25 اغسطس 2014
+ الخط -


وضعت القمح الصغير في الغربال، وأخذت تغربله في صحن كبير، صنع خصيصاً لتحضير الكعك. تململت يداها قليلاً، فتناثرت بعض حبات القمح فوق طاولة المطبخ. لم تستسغ حبات القمح الأمر، وشعرت بأنها منبوذة، وبأن حياتها لا قيمة ولا معنى لها، وبأنها لم تعد ذات فائدة تذكر. كما أنها لم تستطع أن تستوعب لماذا هي بالذات من نالها الظلم والحيف، ولم تجد مبرراً لهذه التفرقة التي طالتها، مما جعلها تسأل هل توجد حبات قمح درجة أولى، وحبات قمح درجة ثانية، وإن كانت خريجتا نفس الغربال؟

فصرخت إحدى حبات القمح بأعلى صوتها لزميلاتها "لن نرضى بأن يتم إقصاؤنا بمنتهى السخافة من صنع الكعك. منطق التهميش والإقصاء والتحقير ولّى. القمح وجد ليتحول إلى رغيف أو بسكويت. لن نرضى أن نكون في مزبلة التاريخ، وتنتهي حياتنا في قمامة. سنناضل حتى الموت، لنحافظ على كرامتنا وسر وجودنا"

تحمست حبات القمح لكلمات زميلتها، فقررن أن يرفعن لافتات الاحتجاج، ويصرخن بأعلى صوتهن مطالبات بالحق في الإنتاج، والحق في إثبات الذات، وبأن جميع حبات القمح متساوية في الحقوق والواجبات.

في حقيقة الأمر، حبات القمح لم يدركن هل صراخهن العالي كان يسمع أم لا، وكن يجهلن الخصم الذي سبب لهن هذه الكارثة. فبحكم جسمهن الصغير جداً، كان يصعب عليهن أن يتعرفن على المطبخ، كما أن سيدة المطبخ، بالمقارنة مع حجمهن، كانت تبدو لهن عملاقة، ويصعب تحديد ولو جزء صغير من ملامحها، أو حتى ماهيتها. ولهذا، عندما كن يلمحن طيفاً يتحرك اتجاههن، كن يشعرن بالأمل، وبأن نضالهن سينتصر في النهاية. ولكن، ما إن يبتعد الطيف، حتى يشعرن بالأسى والإحباط واليأس والملل. وبين الصراخ والاحتجاج ومشاعر الأمل واليأس، جاءت يد ومنديل، ومسحتهن جميعاً على حين غرة، إلا حبة قمح واحدة نجت من هذا القصف المباغت، لتكون شاهدة في نظرها على هذه التراجيديا الشكسبيرية، والتي تم فيها تصفية أكثر من مائة حبة قمح، لأنهن طالبن بحقهن في الإنتاج، والإسهام في صنع الكعك.

حبة القمح الناجية أصابتها الهستيريا، وأخذت تصرخ بتوتر في زميلاتها القابعات في الصحن "احذرن الأيادي الناعمة. احذرن القصف. سيتم إيذاؤكن، إنهم متوحشون لا يرحمون. ستعذبن، ستعدمن، احذرن الأيادي الناعمة".
حبات القمح القابعات في الصحن لم يشهدن المجزرة التي راحت ضحيتها رفيقاتهن، ولكن صراخ حبة القمح الناجية، توترها وعصبيتها جعلهن يتوجسن، وأصابهن الهلع والجزع، فأخذن يختلقن حكايات عن أن قصفاً جوياً محتملاً سيصيبهن ليبعثرهن ويمحوهن من الوجود، وبأنه قد يتم اختراقهن بواسطة جواسيس، أو أجسام مجهولة غريبة مؤذية. الحكيمات منهن ظللن هادئات وقررن أنهن لسن لا أول ولا آخر حبات قمح في الوجود، وعليه لا يوجد ما يستدعي القلق. 

في قمة الفوضى والهلع التي كانت تشعر به غالبية حبات القمح، وضعت سيدة المطبخ بودرة الشوكلاتة والبيض والسكر بلا مبالاة، وهي منشغلة بالصراخ في وجه ابنها المدلل، ليكف عن إزعاج والده المنشغل دائما بأخبار شباط وبنكيران وكرة القدم.

بدا أن نبوءة الجواسيس والأجسام المجهولة المؤذية صادقة، مما زاد من التوتر والرعب داخل الصحن. عمت فتنة وبلبلة، وحالة من الفوضى يصعب السيطرة عليها. البرودة وجسم البيض اللزج جعل حبات القمح تشعر بجسمها ثقيلاً، ولا تقوى على حمله، بل بدا لها أنها لم تعد ذلك الكائن الذي تعرفه، وأضحت شيئاً آخر. حبات الشوكلاتة اختلطت مع حبات القمح فذابا في بعضهما، مما خلق في حبات القمح ريبة وقلقاً وشكاً كبيراً، حيث بدت معظم حبات القمح تتساءل من تكون: حبة قمح أم حبة شوكلاتة أم هما معاً؟ معظم حبات القمح أصبحن مقتنعات بأنهن تتعرضن لمخطط جهنمي، ولمؤامرة كارثية، تهدف إلى محو هويتهن. ولهذا، معظم حبات القمح رفعن بتلقائية وعفوية لافتات الاحتجاج، يصرخن بأعلى صوتهن، يطالبن فيها باحترام هويتهن وكيانهن وبتحريرهن من الاستعمار والاستيطان الجديد في صحنهن. فقط الحكيمات والضريرات بدين غير مكترثات بما يحصل، بل ظهرن مستمتعات بالبيض ويسبحن فيه بمرح. 

في خضم الاحتجاج والصراخ، ظهرت سيدة المطبخ. حبات القمح المحتجات، اعتقدن أن مطالبهن ستلبى وأن نضالهن انتصر، وصوتهن سمع، فهدأن قليلاً، وهن يتغامزن فيما بينهن بفرح. شغلت سيدة المطبخ، بلا مبالاة، أيضاً، الخلاط الكهربائي لمزج عناصر صناعة الكيك، فتطايرت بعض حبات القمح والشوكلاتة في الهواء، لتسقط فوق طاولة المطبخ. حبات القمح بدا لهن هذا القصف مباغتاً وعنيفاً وغير أخلاقي. ثلاث دقائق كانت كافية لتمتزج جميع العناصر فيما بينها، ولا يبقى أدنى أثر لحبات القمح ولا للبيض ولا للشوكلاتة، ولا لحبات السكر. أما حبات القمح التي نجت من هذا القصف وسقطت على الطاولة، قررن أن يسجلن بأسى، قبل أن يمسحهن المنديل الناعم من الوجود، بأن هذه هي ثاني تراجيديا شكسبيرية تعرضن لها، وبأن التاريخ لا بد أن يسجل، ويحكي عما تعرضن له من إبادة جماعية، والخير كل الخير في حبات قمح المستقبل.

801B3919-7232-4F11-BE63-30C4073E7E55
801B3919-7232-4F11-BE63-30C4073E7E55
أمل مسعود (المغرب)
أمل مسعود (المغرب)