ماذا بعد سحب بوتفليقة ترشحه؟

ماذا بعد سحب بوتفليقة ترشحه؟

15 مارس 2019
+ الخط -
قبل يوم من إعلان المجلس الدستوري في الجزائر أسماء المرشحين للانتخابات الرئاسية، سحب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه من قائمة المترشحين. لو حدث ذلك الانسحاب قبل موعد إعلان الرئاسيات، لكان تطورا مهما في الساحة السياسية الجزائرية. قبل أشهر، أسرّ رئيس حركة مجتمع السلم (حمس)، عبدالرزاق مقري، إلى مقرّبين منه بأنه التقى السعيد بوتفليقة، أخ الرئيس ومستشاره، مقترحا عليه تأجيل الانتخابات من خلال تعديل دستوري يُقر ذلك، ومن ثم الدعوة إلى ندوة وطنية، تشارك فيها مختلف أطياف العمل السياسي، للخروج بمقترحات دستورية، تضمن انتقال السلطة بسلاسة ومن دون مشكلات.
فاجأ الشعب، بمظاهراته الحاشدة الرافضة ولاية خامسة، السلطة والمعارضة وكل المتابعين للشأن الجزائري، فأعادت السلطة طرح التمديد، وعدم الترشّح مرة أخرى، إنقاذا لنفسها من سطوة الشارع، ولكن من دون التزام بنصوص الدستور، ولا تعديل في بنوده هذه المرة.
يُعد ما جرى في 12 من شهر مارس/ آذار الجاري "لا حدث" في نظر من يعتبرون خطوة السلطة مجرد مناورة أخرى، لتجديد النظام بأثوابٍ ووجوه أخرى، وينظر آخرون إلى قرار 
عدم ترشح بوتفليقة لولاية خامسة خطوة، وإن كانت غير كافية، نحو تلبية مطالب الشعب التي صدحت بها حناجره، خلال كل المظاهرات التي لم تبرح الشارع يوما واحدا منذ نحو شهر.
قال عبدالعزيز بوتفليقة إنه لم يكن ينوي الترشح أصلا للرئاسيات الملغاة، يفهم من ذلك أن من رشح الرئيس وقدَّم ملفه للمجلس الدستوري خالف أوامره، ولم يلتزم برغبته في التنحّي، يدخل في هذه الخانة إخوانه، وفي مقدمتهم قائم مقام الرئيس، السعيد بوتفليقة، وقادة أحزاب السلطة، وأولهم جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، ومن حق الشعب الجزائري رفع دعاوى قضائية ضدهم، لترشيح شخصٍ ضد رغبته.
الثابت في هذا كله، ومن دون الغوص في نيات الرئيس، أن آلة السلطة التي أسس قوانينها هو بنفسه، هي من رشحت الرئيس، وهي من سحبت ترشيحه، إذ لم يكن المراد منها سوى
الالتفاف حول المطالب الشعبية، حيث لا تعدم السلطة حيلا لتحقيق ذلك، فقد دأبت، منذ أمد طويل، على لي عنق القوانين، واستغلال الثغرات بها، وتعديل الدستور، وقت ما تشاء، وكيف ما تريد.
تجاوزت السلطة هذه المرة الدستور الذي لا تنص بنوده على التمديد، وأمعنت في التعنت برسالة مطولةٍ تحمل من الديباجة والمتن ما لا يدع مجالا للشك أن كاتبها لن يكون، في كل الحالات، شخصا يخرج لتوه من المستشفى. تحمل الرسالة مشروع تغييراتٍ طُبخت على نار هادئة، يُراد لها شق الشارع، وقد تنجح السلطة في ذلك، لكنها تبدو عسيرة الهضم على شريحةٍ واسعةٍ من الجزائريين الذي اكتووا بخيبات تجارب سابقة، لندوات حوار سياسيةٍ نظمتها أجهزة السلطة، ولم يعودوا منها إلا بخفي حنين.
تعتقد السلطة، من خلال الرسالة التي نشرتها باسم الرئيس بوتفليقة، أنها استجابت لمطالب 
الجماهير، ولكن الحقيقة أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تلميع لأدواتٍ قديمة، لم تعد تُقنع الشباب الجزائري الذي اطلع على تجارب شعوب، وأمم أخرى، فما السبيل إذا للخروج من هذا المأزق الذي آلت إليه الأمور في الجزائر؟ ليس هناك حلول سحرية جاهزة، ولكن السياسة هي فن الممكن، ومنطقها أن ما لا يُؤخذ جله لا ينبغي أن يُترك كله. وعليه، الحراك الشعبي ضروري لمواصلة الضغط على السلطة أولا، ولكسب أرضيةٍ لحوار ندّي حقيقي معها، يطرح بدائل عملية وفاعلة، لإعادة إرساء قواعد دولة مدنية حديثة، مبنيةٍ على مبادئ العدالة والقانون، من دون إقصاء لأي طرف، من جميع أطياف المجتمع، والألوان السياسية المختلفة. ولتحقيق ذلك، على الحراك الشعبي تنظيم صفوفه، بتعيين ممثليه من مختلف التخصصات، والقادرين على التفاوض من دون إفراط ولا تفريط. ذلك أن تغيير النظام الذي ينشده الشعب الجزائري لا يمكن تحقيقه بمظاهرات، صغيرة كانت أو كبيرة. صحيح أنها البداية الحقيقية لانتباهة شعب، خَوَّفه النظام طويلا من تجارب شعوب شقيقة سابقة في سورية وليبيا واليمن. ولكن، على الرغم من ذلك، كسَّر جدار الصمت والخوف، وتلك أولى الخطوات نحو المسار الصحيح. جديرٌ بالذكر أيضا أن التغيير لا يمكنه أن يتم بين ليلة وضحاها، فالعمل السياسي الحقيقي يتطلب الإتقان، والنضال المستديم، من مبدأ خذ وطالب، وأن الأنظمة الحاكمة وزبانيتها لا يفرطون بسهولة في مصالحهم، وما استولوا عليه من أملاكٍ ومنقولات، وجاه وسلطان وصولجان.
لا تنفع المجابهة، ولا اختبار القوة مع النظام، فالشعب قال إن حراكه سلمي، وأنه ماضٍ في تحقيق ذلك. حتى وإن أراد أفراد محسوبون على من يدورون في فلك النظام جرّه إلى العنف 
الذي يسعون إليه من خلال تعفين الأوضاع، والدفع باتجاهه، محاولة منهم لحرف القطار الشعبي عن مساره الحقيقي.
حقق الحراك الشعبي تقدما مهما، لا يكتمل إلا بتعيين ممثلين عنه، وتنظيم نفسه، يضاف هذا إلى المعارضة السياسية الحزبية التي لا يمكن تجاوزها، ولا نكران عملها سنواتٍ طويلة. هذه المعارضة التي عانت الأمرّين من السلطة، حيث عملت كل ما في وسعها لاختراقها وتشتيتها، وبعثرة أوراقها، وتدجين بعض أعضائها، واختلاق مشكلاتٍ لها، وشق صفوفها، وابتذالها بتفريخ أحزاب وصفت بالحكومية، لا عمل لها إلا مباركة كل ما يصدر عن السلطة.
صحيحٌ أن الأحزاب المعارضة في الجزائر تعبت من كيد النظام، وصحيحٌ أيضا أنه لم يكن لها يد في تحريك الشارع الجزائري أخيرا، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر عملها في زمن التصحر السياسي الذي دأب النظام على تكريسه سنوات طويلة، كما لا يمكن لمنصفٍ نكران قدرة بعضها على اللعب على رؤوس ثعابين السلطة. ومن هنا، تأتي أهمية تكاتف الجميع حراكا شعبيا ومعارضة حزبية، ممن أثبتت جدارتها لتأطير أي حوار سياسي قادم مع السلطة، والتي تعودت على إفراغ الندوات السياسية من محتوياتها الحقيقية. وما تجربة الحوار السياسي الذي قاده رئيس البرلمان الجزائري، عبد القادر بن صالح، العام 2011، بتكليف من الرئيس بوتفليقة، إلا واحدة من خيبات الأمل في حوارٍ تقوده السلطة، ولا يلدغ مؤمن من جحر مرتين.
خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.