ليبيا.. الحرب وأزمات الشرعية

ليبيا.. الحرب وأزمات الشرعية

01 يناير 2020
+ الخط -
تثير الأحداث الراهنة في ليبيا الجدل بشأن شرعية السلطات الانتقالية الليبية، وخصوصاً مع شيوع التدخل الخارجي والاستعانة بالمرتزقة في الحرب الأهلية في هذا البلد، وخصوصاً ما يتعلق بمدى مشروعية التصرفات، وفقاً للاتفاق السياسي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية في العام 2015، باعتباره الوثيقة القانونية المعترف بها دولياً، ولعل النقاش المتعلق بالتداعيات الراهنة يرتبط بفكرة (وحالة) فقدان الشرعية أو اكتسابها، وإمكانية تجديد المشروعية.
مجلس النواب و"الصخيرات"
على مدى سنوات ما بعد اتفاق الصخيرات، شهد مجلس النواب انقساماتٍ على خلفية الموقف من المهام الأساسية، إصدار إعلان دستوري جديد، كما امتنع عن منح الثقة لوزراء حكومة الوفاق في طرابلس ودعم الحل السلمي، على الرغم من موافقة 120 نائبا، ما ساهم في تعميق انقسامات المجلس، لم تقتصر تداعياتها عند مستوى ظهور كتلٍ سياسية، ولكنها تطوّرت إلى تقسيم المجلس مما بين اجتماعات في طبرق وأخرى في طرابلس. وبمراجعة الدور البرلماني، وعلى الرغم من الجدل بشأن سلامة التشريعات، كان ملاحظا أن نشاط مجلس النواب في 2019 اقتصر على إصدار 16 بياناً، حسب الموقع الرسمي، ولم تظهر تشريعاتٌ أخرى. وثمّة احتمالٌ أن التوقف عن التشريعات يرجع إلى الانقسام الحاد في المجلس، واندلاع الحرب في غالبية مناطق الدولة، بشكلٍ يظهر حالة التفكّك والتداعي.
منذ الحرب في طرابلس، في يوليو/ تموز 2014، شهدت ليبيا عدة محاولات تمرّد على 
الإطار القانوني القائم، ففي البداية، حاول "تحالف القوى الوطنية" السيطرة على العاصمة، وإطاحة "المؤتمر الوطني العام"، واستعان بالتشكيلات العسكرية الموجودة في المدينة، لواء حرس الحدود (القعقاع)، وكتبية أمن المطار الواسعة النفوذ في ذاك الوقت، وكانت محاولةً أخرى في أغسطس/ آب 2018، ثم المحاولة الحالية. لعل الرابط المشترك ما بين هذه المحاولات يتمثل في رغبة بناء الشرعية عن طريق الحرب والخروج على المسار السلمي، حيث ثمّة قناعة بأن مسار "الإعلان الدستوري" واتفاق الصخيرات لا يرتب تموضعاً سياسياً مناسباً، سواء لخليفة حفتر أو أتباع الجماهيرية.
وعلى مدى هذه الفترة، حاول مجلس النواب ترتيب المؤسسات السياسية، ولكنه مع صدور قرار المحكمة العليا "عدم دستورية الفقرة 30/ 11 من الإعلان الدستوري المعدّلة بموجب التعديل الدستوري السابع الصادر في 11 مارس/ آذار 2014 وكافة الآثار المترتبة عنه"، ثار جدل بشأن مشروعية مجلس النواب، لم يترتب عليه انهيار المؤسسة التشريعية، لكنه راكم نزاعاً قانونياً استمر في المرحلة اللاحقة. وكان لافتاً، مع بداية 2015، إصدار القانون رقم (1) الخاص بالخدمة العسكرية. وفي مارس/ آذار من العام نفسه، أصدر "القائد الأعلى للقوات المسلحة"، عقيلة صالح، القرار رقم 20 بتعيين خليفة حفتر قائداً عاماً للجيش الليبي، واستند في هذا القرار إلى التشريعات السابقة الصادرة في سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى القانون رقم 11/ 2012 وتعديلاته. وفي هذا السياق، تسمح المادة 35 من الإعلان 
الدستوري بإمكانية استخدام المسميات في التشريعات القائمة، حسب وظائف الجهات الجديدة، التنفيذية والتشريعية، وهناك احتمال بأن إصدار القانون (1/ 2015) استند للتشريعات السابقة في تعريف منصب "القائد العام للقوات المسلحة الليبية" وصلاحياته.
وبشكل عام، كان استخدام القوات المسلحة للتعبير عن الجيش سائداً في التشريعات الليبية حتى بداية التسعينيات. وفي تلك الفترة، ظهر منصب القائد العام للقوات المسلحة، حسب المادة 23/ 2 من القانون 40/ 1974، لكنه، بعد بدء مرحلة الشرعية الثورية، ظهرت فلسفة "الشعب المسلح"، والتي تأطّرت نظرياً تحت "اللجنة العامة المؤقتة للدفاع"، بوصفها مؤسسةً يجمع رئيسها مزيجاً من صلاحيات وزير الدفاع ورئيس الأركان. وبهذا المعنى، يمكن ملاحظة أن صلاحيات قائد الجيش، حسب التعديلات أخيرا، هي محاكاةً للفلسفة الشمولية للعقدين الأخيرين من النظام الجماهيري.
وفي ما يخص الموقف من الاتفاق السياسي، قام مجلس النواب بتعديلٍ جزئيٍّ لاتفاق الصخيرات، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، عندما أجرى تعديلاً لتخفيض مجلس الرئاسة إلى رئيس ونائبيْن، وفصل منصب رئيس الحكومة، ما دفع مجلس الدولة إلى الاعتراض بحجّة
 عدم التشاور بين المجلسين. وبهذا المعنى، تخلّى النواب عن مهامه في تطبيق الملحق رقم 4 لتحويل الاتفاق السياسي لوثيقة دستورية، وهي تعني خطوةً تعني رفض عملية الأمم المتحدة، وبشكلٍ يحتمل معه فقدان صفته بسبب تجاوز المدة الدستورية في يوليو/ تموز 2016.
وبغض النظر عن النقاش بشأن مشروعية هذه القوانين والقرارات، يواجه منصب القائد العام مشكلةً من جانبين: الأول، على الرغم من الطبيعة القانونية لهذه القرارات، أصدرت القيادة العامة بيانات تحمل اسم "القوات المسلحة العربية الليبية"، بشكلٍ أثار جدلاً بشأن مدى تلاقي هذه التغيرات مع طبيعة الجيش في ليبيا وتركيبته، وأيضاً سلامة تطبيق التشريعات وانضباطه من الناحية الشكلية. ومن الناحية السياسية، أثار هذا الخطأ القانوني ملاحظات المكوّنات غير العربية، باعتباره استبعاداً لهم من المشاركة في المؤسسات العامة. الجانب الثاني، ما يتعلق بالمادة 8 من الأحكام الإضافية، حيث تتضمّن نقل كل الصلاحيات الأمنية والعسكرية لحكومة الوفاق، فور التوقيع على الاتفاق السياسي، وهي مهمة مستقلة حصرياً للمجلس الرئاسي، تمكّنها من إعلان خلو المناصب القيادية تلقائياً، وإعادة تعيين الموظفين. ووفق هذه الصلاحية، اعتبرت حكومة الوفاق حفتر متمرّداً، وقدّمت بحقه لائحة اتهام للجهات العسكرية.
اتفاق الصخيرات والشرعية
منذ صدوره في ديسمبر/ كانون الأول 2015، يشير الاتجاه العام للاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات إلى رغبة الأمم المتحدة في تكوين سلطة تنفيذية انتقالية، فحسب المادة 1، تستمد حكومة الوفاق شرعيتها من الاتفاق السياسي، كممثل قانوني وسياسي. وأيضاً، وفقاً للقرار 2009/ 2011، تراقب الأمم المتحدة العملية السياسية في ليبيا، وهذا ما يجعل وضع "المجلس الرئاسي" غير مرتبطٍ بموقف البرلمان، ولكنه يخضع لمتابعة مجلس الأمن. وهنا، يمكن الإشارة إلى استمرار اعتراف مجلس الأمن بالاتفاق السياسي وثيقةً دستوريةً، وتعد زيارة وفد ليبي، يضم وزيري الداخلية والخارجية، الولايات المتحدة ضمن هذا الأمر. وكذلك التفاهم حول الشؤون الأمنية والسياسية، ما يدعم الشخصية الاعتبارية لحكومة الوفاق في التمثيل السياسي، فيما تحاول جهاتٌ ليبيةٌ، ودوليةٌ، تغيير الموقف في مجلس الأمن.
ومنذ البداية، قامت فلسفة الاتفاق السياسي على تجديد مشروعية المؤسسات السياسية والخروج من التنازع على السلطة. وفي هذه النقطة، كان تركيز هذا الاتفاق على محورين رئيسيين: 
الأول، تشكيل سلطات الدولة على أساس قاعدة تماثل المشروعية القائمة على نص الاتفاق، فحسب الملحق 4 تكون مهمة مجلس النواب تضمين الاتفاق في إعلان دستوري جديد، ليكون الإطار القانوني لمرحلة أخرى تمتد عاما، ويمكن تمديدها مرة واحدة. الثاني، هو إعلان شغور الناصب العامة (المادة 8 من الملحق الإضافي) لتمكين الحكومة الجديدة من مزاولة سلطتها. لكنه على الرغم من مرور أربع سنوات، كانت النتائج في ظهور مؤسستي المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة، فيما استمر مجلس النواب في المساومة على الالتزام بالاتفاق السياسي، وتوفير الفرصة للحل العسكري.
ويمكن وصف مرحلة ما بعد الاتفاق السياسي بحالة تنازع على الشرعية، اتخذت مسارين؛ اتجاه مجلس النواب إلى نقض تشريعات المرحلة السابقة من دون تقديم بدائل توفر حلولاً سلمية بقدر الاهتمام بإضفاء "شرعية" على الحرب، وعسكرة المجالس البلدية. أما المسار الثاني، حيث تعميق الدخول الدولي على الشؤون الليبية. ووفق تقارير الأمم المتحدة، تلقت الجهات التابعة لـ"الحكومة المؤقتة" دعماً عسكرياً من دول عدة لخدمة عملياتها العسكرية في جنوب ليبيا وغربها. وأخيراً تسعى حكومة الوفاق إلى الحصول على دعم دولي للدفاع عن العاصمة. ويمكن القول إن هذه النتائج تعكس حالة انهيار للمقومات السياسية في ليبيا، بشكلٍ تصعب معه مشاركة الديناميات الحالية في مرحلة انتقال سلمية.
لماذا الحرب؟
تكشف الأحداث المرافقة للحرب الأهلية في ليبيا عن أن مصادر الأزمة السياسية تكمن في أن الثورة المسلحة ضد معمر القذافي ونظامه ساهمت في إدخال كياناتٍ اجتماعية/ مسلحة للنخبة السياسية الجديدة، وإعادة هيكلة القوى الاجتماعية، فيما يحاول أنصار الجماهيرية منع اقتراب معارضي القذافي من السلطة. ويظهر هذا المنحى في مناسباتٍ عدة، بدأت مع حراك "لا للتمديد" للمؤتمر الوطني في العام 2013، وأخذت مساراً هيكلياً في المراحل التالية لمواجهة صعود الإسلاميين والتكوينات الاجتماعية التقليدية والمجالس العسكرية التابعة لثورة فبراير. وفي الحرب الدائرة حول طرابلس، ظهرت مصطلحات حقبة القذافي، كحركة "الشعب المسلح" و"اللجنة المؤقتة للدفاع" ضمن المعارك الحالية، بشكلٍ يعبر عن استمرار الثنائية الأيديولوجية ورغبة دعاة الجماهيرية في استعادة السلطة.
وهناك عامل آخر يفسر اللجوء إلى الحرب، ويتمثل في أن الانتخابات لم تؤد إلى الثقة في المرحلة الانتقالية، فمن جهة، جرت كل الانتخابات في ظل استقطاب سياسي وصراع مسلح، ومن جهة أخرى، كشفت عن تراجع نفوذ محمود جبريل بعد الانتخابات التشريعية في العام 2014، كما أن حفتر لم يدخل تجربة حزبية أو انتخابية يمكن على أساسها تقدير نفوذه الاجتماعي أو
السياسي.
على أية حال، وفي الوقت الراهن، يكتسب مجلس النواب وضعاً سياسياً أكثر منه قانونياً، فيما يُضفي توجه الاتفاق السياسي إلى تشكيل سلطة تنفيذية أرضية قانونية على حكومة الوفاق، تماثل حالة ليبيا وقت إعلان الاستقلال. وعلى الرغم من وجود هذه الميزة، فإنها لا تشكل حلاً كافياً للخروج من أزمة شرعية سلطات الدولة، حيث تحتاج تأسيسا آخر على قاعدة الحل السلمي ووقف الحرب. وبالنظر إلى ديباجة الاتفاق السياسي، قام تفويض المشاركين في الحوار للمؤسسات على إلتزام الحل السلمي والمسار الديمقراطي والتداول السلمي للسطة، والقضاء على أشكال الاستبداد. ومن هذه الوجهة، ترتبط فكرة الشرعية بالابتعاد عن العنف والعسكرة والميل إلى البناء السلمي. وفي هذا السياق، يمكن تفسير الهجوم على الجنوب وطرابلس واحدةً من حالات فقدان الشرعية.
على مدى الفترة الماضية، ظل خليفة حفتر، بوصفه واجهةً لترابطات دولية متناقضة، رافضاً المسار السياسي، ويعتبر الحرب خطاً استراتيجياً للوصول إلى العاصمة، طرابلس، ما يضع صعوبةً أمام إدماجه في مفاوضات تسوية. لذلك قد يتجه التفكير إلى تجاوز المحاولات الفاشلة في جمع الأطراف الحالية على مائدة واحدة، وبالعمل على تطوير خطة الأمم المتحدة ليكون تمثيل الليبيين أكثر اقترابا من المجتمع المحلي، وتقليل تأثير الضغوط والتداخلات الدولية.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .