...لكن داعش لم تصل إلى حيّنا

...لكن داعش لم تصل إلى حيّنا

07 مارس 2016
الضاحية بعد تفجير برج البراجنة (حسين بيضون)
+ الخط -
إنها التاسعة ليلًا في حي هادئ يقع على أطراف ضاحية بيروت الجنوبية. الحي هادئ وهذه حقيقة ضدّ الأحكام المسبقة. الشبان الذين تئن تحتهم الدراجات النارية ليسوا مزعجين، وأبواق السيارات متقطعة على نحوٍ يطرد الضجر.

لن نقول إنه لا أبواق، وإنه لا شبان يصرخون، وإن الشاشات لم تكن مثبتة ذلك يوم على شاشة "المنار"، في انتظار الأمين العام لحزب الله. سنفترض أن كل شيء كان في مكانه، وأن الشارع كان هادئًا. التشييع الذي أطلق خلاله الرصاص في الصباح انتهى. علّقت صورة كبيرة للشهيد أول الشارع، ورفع علم الحزب على شرفة منزل العائلة، وكل شيء انتهى. قد يأتي لاحقًا نائب من الحزب للتعزية، وقد يرافقه آخرُ من الحركة، ويلتقط الجيران الصور معه، وفي أحسن الأحوال قد يلقي خطابًا يحذر فيه من داعش، ويقول إن جبهة النصرة أخذت الحافلة إلى الحي، وكانت لتصل قبله إلى المنزل، لكنها أوقفت، وعلى الجميع أن يشكر الله على ذلك. كل هذا انتهى، وما لدينا الآن هو مجرد شاب مات في أول العشرينيات.

في الليل عاد الحيّ هادئًا، والحادث بين سيارتين، الذي وقع بعد أذان الظهر الذي يخترق النوافذ، على أفضلية الركن، انتهت تداعياته هو الأكثر. جُرح شابان، وكُسر زجاج، وامتلأ الشارع بالزعيق. لكن هذا كل انتهى، ونحن الآن، في الشارع الهادئ. يحدث هذا في جميع الشوارع، وليس في الضاحية فقط. فالضاحية، في النهاية، تنتمي إلى حفرة أعمق منها. ورجال الأمن، لا يعملون في الضاحية، ولا يعملون في أي مكان. ولا يدخلون الضاحية، ولا يدخلون أي مكانٍ آخر. والدولة، ليست غائبة عن الضاحية، الدولة غائبة. الدولة هي هؤلاء الناس، وهم الدولة. يشتمونها لصرف النظر عن حقيقة أنهم يشتمون أنفسهم. لماذا نعترض لأن حادثًا وقع، ولم تأتِ الدولة، ونحن نعرف أنه لا دولة، وأنه لا رئيس، (إما عون أو عون، وإلا عون) وأن المجلس النيابي قرر التمديد لنفسه، لأنه يعتقد أنه الشعب، ولأن الشعب يعتقد أنه هو المجلس، وهو الدولة، ولأن الحكومة، لا تكون حكومة إلا إذا ذكرت المقاومة في بيانها الوزاري. إنها التاسعة، وأهل المقاومة، بدأوا يطلقون الرصاص ابتهاجًا.

دعكم من إطلاق الرصاص الذي يحدث ثقوبًا في السماء. إنه ابتهاج المبتهجين بلا شيء. يصنعون فرحًا وهميًا، غالبًا ما يتحول إلى حزن لآخرين يصيبهم طيش الابتهاج بمقتل. ذات مرة سقط طفل في قصقص، لكنه لم يكن في الحرش القريب، إنما كان على أرجوحة البلاد. تأرجح لمرةٍ أخيرة ثم تدلى رأسه. قتل الرصاص غيمة وقتل رأس الطفل الصغير. وفي مرةٍ أخرى سقطت امرأة واقفة على الطابق السابع تنتظر نهاية الحديث، ولكنها كانت تنتظر حتفها، فعجل بهِ أحد المشيّعين. صارت الضحية ضحيّتين، واتسع الحزن، وصل إلى طوابق أعلى. عندما يتسع الحزن يكتسب أهميةً مضاعفة. ولذلك، ربما، لا يحدث موت امرأة على شرفةِ الحزن فارقًا سلبيًا، إنما يضيف حزنًا إلى الحزن. أما أن تثقب الرصاصة صدغ الطفل على مرجوحته، احتفالًا بخطاب، ابتهاجًا بظهور، فهذا لم يعد رصاصًا طائشًا إنما هو موجه بدقة وعناية. إنه رصاص فتاك، أصاب رؤوس الجميع، فثقبها هي أيضًا، وفرغت منها صور الضحايا ووجوههم، فلا أحد يعترض على الرصاص الآن.

في الحيّ الهادئ الذي نتحدث عنه، لن نتحدث عن الرصاص الطائش، ولا عن السلاح المتفلت. نتحدث عن العاديين. الذين اعتادوا كل هذا، ويسكتون عنه كأنهم موافقون على حدوثه. وإن اعترضوا، فيعترضون بهزلٍ لا يرقى إلى مصاف انتمائهم إلى صمت طويل. أتحدث عن هؤلاء، وأنا منهم. المستسلمون تمامًا لرغبة عميقة في التحول إلى تماثيل. ونحن قلة بين جيش المبتهجين، الذين يعتدون بكل المظاهر الجديدة التي تقيأتها كلمة ممانعة. إنها التاسعة، والجميع جالس ببهجة خلف التلفزيون. الأصوات تعلو. جهزّوا أنفسكم. سيبدأ الخطاب. كالعادة، المناسبة: شهيد في سورية. مضمون الخطاب: فلسطين. وابل من الرصاص في السماء، والنفايات تحترق على الأرض. الحرّ على الأبواب، والبرغش يتكاثر. جهزوا الكمامات.



اقرأ أيضاً: العروبة ذهابًا وإيابًا

دلالات

المساهمون