لعنة المصالحة في الجزائر

لعنة المصالحة في الجزائر

27 يونيو 2018
+ الخط -
أطلّ علينا وزيرنا الأول، عفوًا هذه المرة هو الأمين العام لثاني أكبر حزب في الجزائر؛ مشيدًا على عادته بمنجزات المصالحة، وكأنها تمت قبل عامين فقط، ونسي أو تناسى أنها أصبحت تدرس في مادة تاريخ الجزائر المعاصر؛ جنبا إلى جنب الثورة التحريرية ومؤتمر الصومام واستفتاء الاستقلال الذي لو كتبت لـ"شارل ديغول" الحياة لاستفاض في منّه علينا بأفضاله وتكرم بآلائه وعظيم جوده، في أنه كان سببا في استقلالنا من استعمار بلاده بلادنا، ولأصبح استقلال الجزائر من منجزات الإدارة الاستعمارية الفرنسية ويكون بذلك مدعاة لـ"ماكرون" أن يتيه فخرا ويذهب به الكبر كل مذهب وهو يهمزنا ويلمزنا، مذكرا إيانا بجميل صنيع أسلافه وأجداده المستعمرين وكريم جودهم أن أعتقوا رقابنا من نار الاستعمار.

حينما تستحيل المصالحة إلى مطية لكل عابث كي يعيث ويفجر ويرعد ويزبد ولا يرعوي ولا يزدجر ولا يستحي، ودافعا لكل ناعق أن يتفضل علينا لمجرد أن حالنا لم يصبح كحال ليبيا وسورية واليمن، وأن الفضل في ذلك لفخامة الرئيس صانع المعجزات وباقر المستحيلات، من عجزت الأيام أن تأتي بمثله وعقرت النساء أن تلد كفؤه وتنجب صنوه.


حينما تتحول المصالحة إلى مسوغ للمسؤولين كي يفعلوا أي شيء إرضاء لغرورهم وتلبية لفجورهم فيخنقوا أنفاس الناس ويسلبوهم أحلامهم وآمالهم في العيش الكريم ويستطيلوا عليهم بالمن والأذى أنهم السبب في بقائهم على قيد الحياة، ولولاهم لكانوا أثرا بعد عين وآيات للسائلين وقصصا للأولين تلوكها الألسن وتستطيب سماعها الآذان.

حينما تصبح المصالحة شجرة تغطي الفساد وتبيح للمسؤولين أن يبالغوا في الأراجيف والأكاذيب والمزاعم حول المنجزات العظام، التي لا تكاد تساوي شيئا بالمقارنة مع مداخيل البلاد طيلة عقدين من الزمان، بل لا تكاد تذكر أمام ما أُنفق بغرض إنجازها.

حينما تغدو المصالحة سببا للصمت وغض الطرف عن التجاوزات والانتهاكات في شتى أبعادها ومجالاتها تفاديًا لإدخال البلاد في سراديب الفتنة الظلماء، وتسليمها للأيادي الخارجية الآثمة من طرف عملاء مأجورين لا يمتون للوطنية بصلة. تتحوّل السلطة إلى مطية لأكل الأخضر واليابس وفعل الأفاعيل والاستحواذ على كل شيء وغمط الشعب حقوقه وسلبها وتلفيق الأحكام الجاهزة شذر مذر زورا وبهتانا.

حينما تُنسي المصالحة البعض، بل الكثير، مسؤولية النظام الذي بتهوره زجّ بشعب في أتون الظلام والمجهول عقابا له على خياراته السياسية التي توَصل لها بعدما مارس حقه الدستوري بحـرية مكفولة، ثم يُدِّل عليه بإنجازه العظيم ونصره المظفر على الإرهاب الذي كان أصلا هو السبب المباشر في نشوئه. ويتواصل أذاه وهو يُذِله ويتبجح بفضائله المزعومة في إحلال السلم والأمن، ولا يكتفي بذلك بل يستثمر هذا الإنجاز ويصنع منه صنما يعبد من دون الله ويصبح بذلك سادنا له؛ يجوز له وصم مخالفيه بناكري المعروف حينما يطالبونه بالتغيير، أو يبدون مخاوفهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في ظل حكم رجل أتعبته الواجبات وأنهكه المرض. كان من المفترض له أن يرتاح ويريح ليسلم المشعل بعدما "طاب جنانه" كما صرح به ذات يوم.

حينما تصبح المصالحة ملفًا مكتمل الوثائق والشروط غير منقوص؛ يحق لدعاته أن يقدموا صاحبه للترشح لعهدة خامسة ويجوز لهم أن يبعدوا من طريقه كل شريف يحاول أن يكون بديلا أو تجديدا أو إضافة على الأقل، تضحى الجزائر وتبيت فريسة تنهشها كل يد عادية وتتداعى إليها الأمم ويسترخصها تجار الذمم.

لقد أضحت المصالحة فعلا الحق الذي يراد به الباطل، والمبرر لحكم الناس رغمًا عنهم والأفيون الذي يخدّر الجماهير المنتشية بمفعول الخطب العصماء ولغة الخشب الصماء فتنقلب حشودًا بكماء. بالفعل باتت المصالحة برنامجا سياسيا وإنجازا خرافيا وخطابا انتخابيا يحق لصاحبه أن يحكمنا مدى الحياة حتى ولو كان مقعدًا على كرسي متحرك.
8A3EF09B-0AAE-4B61-92EA-2DBD2738F8E1
فريد بغداد

ليسانس علوم سياسية وعلاقات دولية، مهتم بالشأن السياسي والأمني المحلي والعربي.