اقتصاد "الطابعة" ومنجزات جدتي

اقتصاد "الطابعة" ومنجزات جدتي

17 يوليو 2018
+ الخط -
استهلكت الجزائر مئات المليارات من الدولارات نظريا، أما عمليا فغالبية هذه الأموال الطائلة من المؤكد أنها أخذت وجهات مغايرة لما كان من المفترض أن تذهب إليه بأشكال متعددة، إما عبر تضخيم الفواتير أو تهريب الأموال إلى صناديق سرية في الخارج أو النهب والاختلاس أو عبر أساليب لا يمكننا إدراكها، المهم أن ذلك يدخل تحت بند الفساد الاقتصادي.

وفي كل مرة يدخل فيها اقتصاد البلاد في الحائط، تظهر الحلول السحرية والعجيبة و"الناجعة" لإخراج البلاد من الوحل الذي غرقت فيه، تجد كهان الاقتصاد ومنجمي السياسة يلقون في أماني حكامنا ومسؤولينا وصفات لاقتصاد مريض، والمفارقة العجيبة أنهم عند تشخيصهم الحالة المرضية لا يصارحون أنفسهم -فعلى الأقل نحن نعلم ذلك يقينا- بأنهم هم من تسبب في المرض بالأساس، ولك أن تستعجب أكثر حينما يصبح المتسبب في المرض طبيبا يصف لك الدواء، "المتحكمون فينا" لو كانوا يحكمون بلدانا تحترم نفسها لتم ملاحقتهم قضائيا ومعاقبتهم جنائيا وليس فقط عبر تحميلهم المسؤولية السياسية بسحب الثقة منهم في البرلمان، فحتى هذا الإجراء لا يمكن اتخاذه في حقهم في بلادنا المسكينة، كيف لا وهم من هندس الدستور وخيطه وفصله تفصيلا وألبسنا إياه رغما عنا تماما كما يفعل الأب مع ابنه الصغير ليلة العيد، يتعاملون مع الشعب بمنطق القاصر السفيه الذي لا بد له من وصي يتصرف في أملاكه ويدير شؤونه.

بل أكثر من ذلك، حينما يخرج علينا الوزير الأول ويصرح بملء فيه وبثقة ووعي كبيرين أن الحكومة ليس لديها ما تخشاه ولا ما تخفيه فأموال البترول والغاز أصبحت منجزات على الأرض، ومبالغة في الثقة بما يقوله يدعو من ينكر هذا الكلام أن يسأل الشعب عن تلك الأموال أين صرفت وأين أنفقت، وحينما تلتفت يمنة ويسرة، شمالا وجنوبا في هذه البلاد ستجدها موبوءة بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية إلى الأذقان، يكفي أن يصبح السيد أحمد أويحيى وزيرا أولا لتلتهب الأسعار ويهوي الدينار وتصبح الدنيا نارا، وتسقط على رؤوسنا الأزمات التي لم نتسبب فيها لكننا حتما سندفع ثمنها الباهض فمن غيرنا يفعل؟ وبلمح البصر يأتيك بالحل السهل الممتنع: "نطبع الأوراق النقدية والمشكلة انتهت، الأمر لا يحتاج كل هذا العنت، لم تعقدون الأمور؟".


إن ما تقدم عليه الحكومة لانتشال اقتصادنا البائس من الغرق لا يختلف كثيرا وخصوصا في انعكاساته على الاقتصاد الوطني عما تقوم به أي عصابة محترفة تمتهن تزوير العملة، تمتلك حاسوبا رخيصا وصورا للعملات النقدية وطابعة مهترئة ورزما من الأوراق، الفرق الوحيد هو أن هذا الإجراء لا يجوز لغير الحكومة فعله، ونِعم الاقتصاد، لست أدري كيف يفكر ساستنا، كثيرا ما يقودني الفضول لمعرفة مكونات رؤوسهم، كم أتمنى أنهم يجرون مسحا بجهاز "السكانير" لتلك الرؤوس حتى نطلع على مكامن الخلل فيها علّنا نساهم في إصلاحها قبل فوات الأوان فليس لدينا خيار آخر طالما أنهم أصروا على حكمنا.
والأدهى والأمرّ أنهم لا يدركون أنهم دمروا أحلام شعب بأكمله بأجياله السابقة واللاحقة في أن يرى الجزائر التي دفع شهداؤها الغالي والنفيس وعرف أبناء الاستقلال فيها الفقر والعوز من أجل أن يروا دولتهم تتقدم الركب الحضاري، وقد أصبحت دول في المقدمة بعدما كانت على هامش التاريخ والجغرافيا استهلكت فقط ربع المبلغ الذي أنفق على "المنجزات" في بلاد المعجزات.
لست أدري ما الذي فعلوه وأنجزوه حتى يمنوا علينا به كل هذا المن، الواقع ينضح فشلا وإفلاسا وإخفاقا في كل شيء، ما يدّعون أنهم أنجزوه يستطيع أي شخص عادي لم يلج المدرسة إنجازه بما في ذلك جدتي، نعم جدتي تستطيع أن تبيع البترول والغاز لتسد رمق أربعين مليونا من البشر؛ وما الضير في ذلك؟

جدتي كانت تدير شؤون "مؤسستها الاقتصادية" بكفاءة واقتدار، كان لها نظام مصرفي ونقدي عز نظيره في زماننا الفاسد هذا، أتذكر جيدا منديلها الذي كانت تعمل منه صرة تضع بداخلها "الصرف" إلى جانب الأوراق المالية المهترئة والمثنية ست عشرة مرة والتي ينبعث منها عبق شهور من "الكز والدس"، كانت تقفل منديلها بإحكام وتضعه في ثنايا غطاء رأسها أو في صدرها، لا يمكنني بأي حال أن أنسى صندوقها الصغير؛ كانت تضع فيه حليها ومصوغاتها والمبالغ الهامة من النقود، كانت رائحته عندما تفتحه خلسة كافية لتعلم أي إنسان يشتمها الإتقان والحرص والأمانة، كثيرا ما كان جدي يقترض منها أو ربما ترغمه على الدخول في شراكة معه في بعض مشروعاته، جدتي أحسنت استثمار أموالها عبر "مشروعات" الدجاج والديك الرومي والحجل، كانت مشاريع منتجة تدر عليها مالا وفيرا ولم يكن ذلك من باب التسلية وتمضية الوقت كما كان يُخيّل إلي، كانت منشغلة على الدوام بوضع محاضن البيض لإنتاج دواجن الخم التي تسمنها بأقل التكاليف غالبا من بقايا طعامنا أو مما كان يرميه جدي من رديء الحبوب والعلف، كانت مدبرة حاذقة، رحمة الله عليها، لم تلجأ إلى طباعة النقود حتى وافتها المنية فقد تركت ثروة ورثها أبناؤها وبناتها، من البيض والدواجن وليس من الغاز والبترول، كانت صاحبة اقتصاد مزدهر خال من الفساد وتجارة رائجة لا يعتريها كساد.

عندما كبرت وبدأت عيناي تتفتحان على وقائع فضائح الفساد، قضية الـ 26 مليارا في نهاية حكم الشاذلي بن جديد ربما تكون أولى تلك الفضائح وحتى إلى زمن ليس بالبعيد مع قضية الخليفة وسوناطراك والطريق السيار شرق - غرب وغيرها كثير، هذا بالإضافة إلى الفساد الذي عاشته جل الحكومات إن لم نقل كلها والذي أثبت أن كثيرا من المسؤولين ليسوا فقط فاسدين بل أيضا لا يحسنون حتى مهمة التسيير والتدبير، أدركت حينما أصبح الفاشلون يمنون على الشعب دون حشمة وبقلة حياء بالمنجزات الدونكيشوتية البائسة والتي استهلكت قيمتها أضعافا مضاعفة أن جدتي كان بوسعها لو أتيحت لها الفرصة أن تترأس الحكومة أو تدير مؤسسة سوناطراك وأن تبيع بترول الجزائر وغازها وتستثمر مداخيلهما أحسن استثمار ولما أخفقت ولو للحظة في إدارة مشروع من تلك المشروعات التي دائما ما يكون مآلها الفشل الذريع أو يلتهمها الفساد المريع دون أن ينقص منها سنتيم واحد، فما الذي قدمه مسؤولونا طيلة عقود من استقلال الجزائر غير الفساد والفشل وليتهم يستقيلون أو على الأقل يصمتون ويطرقون رؤوسهم خجلا من الخيبة التي أوصلونا إليها، لا بل مع كل ذلك لا يستحون ويعودون من جديد من أوسع الأبواب ويتشدقون على الشعب بالمنجزات الكرتونية.
8A3EF09B-0AAE-4B61-92EA-2DBD2738F8E1
فريد بغداد

ليسانس علوم سياسية وعلاقات دولية، مهتم بالشأن السياسي والأمني المحلي والعربي.