لا قدس، لا حل، لا دولة

لا قدس، لا حل، لا دولة

08 ديسمبر 2017

تظاهرة احتجاجية أمام السفارة الإسرائيلية في عمّان (7/12/2017/Getty)

+ الخط -
لا يقتصر قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على نقل السفارة الأميركية إلى القدس. إنه يتعدّى ذلك إلى إلغاء اعتراف واشنطن بحل الدولتين الذي صار التزامها به رهنا بقبول طرفيه، الفلسطيني والإسرائيلي. وبما أن إسرائيل ترفضه، فإن ترامب لن يقبله من الآن فصاعدا، وهذا قرار إضافي اتخذه، ولكن من دون إعلان، يطلق يد تل أبيب في القضاء على ما بقي من مقومات دولة فلسطين.
بعد موجات الاحتجاج الواسعة على القرار، أعلن مسؤول أميركي أن نقل السفارة إلى القدس ليس فوريا، وسيستغرق ثلاثة أعوام. إذا كان هذا صحيحا، لماذا لم ينتظر ترامب نتائج مفاوضاتٍ تعهد باستئنافها بين الطرفين، أخرج قراره القدس منها، وحسم أيضا مصير القدس الشرقية التي لن تكون عاصمة دولة فلسطين التي لن تقوم؟ وماذا يبقى للحل السياسي، بعد إلغاء التفاوض وموضوعه، وإبطال حل الدولتين بربطه بموافقة إسرائيل؟
ليست القدس مدينةً كغيرها، إنها قدس أقداس العرب، مسيحيين ومسلمين. لذلك، ليس قرار منحها لإسرائيل مجرد كلماتٍ تحمل توقيع تاجر عقارات البيت الأبيض. إنه اعتداءٌ على وجود  العرب والمسلمين وأرواحهم التي طالما تغذت من ارتباطها بالقدس وارتباط القدس بها، الذي يربو على نيف وألفي عام من تاريخ شكل وعيهم بها مكانا يعتبرونه قدسيا، ليس ولن يكون مجرد مدينة! كما أنّ ترامب لم يقرّر نقل سفارة فقط، بل باع قدسية التاريخ في صفقةٍ عقاريةٍ إلى الصهاينة، تستهدف إخراجها من فلسطين وهويتها العصية على الإلغاء، وأخرج نفسه من التباس أوهم بعضهم أن أميركا تغيرت، ولم تعد تستحق كراهيتنا، وأوهمه أن مصير شعب فلسطين يتوقف على قراره الذي سيبطل بما هو مصطنع تاريخا صنعه شعبٌ تاريخيٌّ تنفرد عاصمته، من دون جميع عواصم الدول، بقدسيتها، لن يأخذها منهم تافه كشف وصوله إلى البيت الأبيض كم صار عميقا الدرك العقلي والأخلاقي الذي انحدرت إليه دولةٌ اختارته رئيسا، فلم يعتمد برنامجا غير التدمير المنهجي للنظام الدولي، تهدّد أفاعيله الجنس البشري، فهو يبني اليوم جدارا يفصل بلاده عن جيرانها في أميركا اللاتينية، ويمنع غدا دخول المهاجرين إلى بلاد صنعها مهاجرون، ثم يلغي نظام هجرةٍ تعتمده الأمم المتحدة ودول العالم، ويؤجج نيران الحقد والكراهية ضد جميع خلق الله، وقسم كبير من الأميركيين، وبينما ينسحب من اتفاقية دولية بشأن المناخ، تقيد انبعاث سموم أميركا القاتلة في الكون، وما تنتجه من أوبئةٍ تقتل الملايين، يفكك تحالف بلاده التاريخي مع أوروبا، ويهدّد الصين بحرب اقتصادية شاملة، وكوريا الشمالية بالتدمير الكامل، ويختار منصة الأمم المتحدة، المنظمة التي تلزم الدول الأعضاء فيها بحل خلافاتها سلميا، ليطلق العنان لجنونه العسكري، ويبتزّ حلفاء بلاده، كاليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا الغربية، ويهدّدها بالامتناع عن حمايتها إذا لم تموّل جيشه، ويمد يده إلى جيوب دول الخليج، طالبا نصف دخل الكويت، وكامل نفط العراق تعويضا عن جنوده الذين سقطوا خلال غزوه وتدميره بين عامي 2003 و2009!
واليوم، يسدّد ترامب ضربة قاضية إلى النظام الدولي والعربي، بقرارٍ ظاهره نقل سفارته إلى القدس، وباطنه القضاء النهائي على فرص قيام دولة فلسطينية سيدة ومستقلة، وإطلاق يد الاستيطان في أرضها الوطنية، والإمعان في بث فوضى بلاده الخلاقة في منطقةٍ تتفجر وتتشظّى في كل شبر منها، وإعادة الإرهاب إلى صدارة قواها وأحداثها، وإشعال صراعات الأديان والحضارات، بالتلازم مع قرب دخول الحرب السورية عامها الثامن، وانفتاح حرب اليمن على احتمالاتها الأشد سوءا، وتزايد كلفتها البشرية وانتشار الخراب والموت فيها، في ظل تفاقم تناقضات طرفيها، الإيراني والعربي، واحتلال شمال سورية أميركيّاً، وغربها وجنوبها ووسطها روسيّاً، وتموضع طهران الاستعماري في دول عربية عديدة، وتدخل إسرائيل عسكريا ضد مرتزقتها في المجال السوري، وتكثيف هجماتها عليهم، بينما تحرق حربٌ مذهبيةٌ إيرانية العراق وشعبه وتقوّض دولته، ويهدّد التفكك معظم دول الخليج.
اتخذ ترامب قرارا مفصليا ستترتب عليه تطوراتٌ مفصلية، لن تنفع في إحباطه ردود أفعال متقطعة، أو موقف عربي، رسمي وشعبي، ضعيف ومجامل، وستحوله أية خطى متردّدة من حدث خطير إلى واقعة عادية، لا بد أن يواجهها الفلسطينيون والسوريون وأحرار العرب والمسلمين أينما كانوا، برد من مستوى التحدّي، يكون تاريخيا وحاسما. إنها لحظة انعطافية في تاريخٍ إما أن نكون قادرين على صنعه، من القدس فصاعدا، أو أن نبقى كما نحن: ضحايا عالم لا يرحم.
قد يكون تنفيذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بحاجة إلى بعض الوقت، لكن نتائجه التدميرية سرعان ما ستفعل فعلها فينا، فهل نترك نيرون البيت الأبيض يعزف غيتاره على وهج حريقٍ يشعله اليوم في فلسطين، استكمالا لما أشعله سلفه، باراك أوباما، بالأمس من حرائق في المشرق والخليج.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.