كي لا تظل النكبة "مستمرة"

كي لا تظل النكبة "مستمرة"

18 مايو 2015
"خارطة الطريق"، رنا بشارة
+ الخط -

تتجاوز الرواية الشفوية للاجئ الفلسطيني حدود حصر النكبة في زمانها ومكانها، حيث دارت أحداثها عام 1948؛ إذ استطال الزمان وتغيّر المكان طيلة عقود تالية. لذلك، تختتم الرواية غالباً بمقولة تلخّص الوعي المأسور بالحدث المؤسس، مفادها أن "النكبة لا تزال مستمرة"، في إشارة إلى استمرار واقع اللجوء.

غير أن هذه المقولة تطرح أمام الفكر السياسي الفلسطيني، وكذلك الحركة الوطنية، تحديات تتجاوز إطار السردية التاريخية لتنشغل بالإجابة عن سؤال: لماذا لا تزال النكبة مستمرة؟ أي لماذا لم ينتصر الشعب الفلسطيني بعد عقود من الصمود والتضحيات الجسيمة؟

لا شك في أن قسطاً من الأسباب يتعلق بالعوامل الذاتية الفلسطينية، وكذلك بالعوامل العربية والدولية، لكن قسطاً آخر ينبغي أن يركز على مستوى التقدم الذي حققه المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري على الأرض. وهو ما يلخصه تقرير الإحصاء الفلسطيني باستعراضه بيانات حول بعض النتائج التي حققتها منظومات السيطرة والتحكم للمشروع الصهيوني، وأهمها أن إسرائيل باتت تستغل أكثر من 85% من المساحة الكلية لأراضي فلسطين التاريخية، بينما يستغل الفلسطينيون حوالى 15% فقط من مساحة الأراضي.

تشير هذه البيانات إلى أن "استمرار النكبة" يعني أن المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري لا يزال مفتوحاً على مآلات قيد التشكل بقوة الوقائع المفروضة على الأرض. الأمر الذي يفرض استمرار فتح الصراع نفسه، واستبعاد فرضية التوصل إلى تسوية سياسية ضمن موازين القوى القائمة، تكفل تحقيق مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وممارسة حق تقرير المصير.

ليست هناك رؤى واضحة أو تنبّؤات حول نقطة النهاية التي سوف يغلق عندها المشروع الصهيوني، لا سيما في مستويات تقدمه على الأرض الفلسطينية، بصفتها عنوان الاستهداف الأبرز لهذا المشروع منذ ما قبل نكبة 48. غير أن هذه العملية بحد ذاتها في ظل ضعف أو غياب استراتيجيات مواجهة فلسطينية فعالة، ومواقف عربية ودولية مؤثرة في مجريات الصراع، تحمل معها مزيداً من الاختلال في ميزان القوى لصالح استمرار تقدم المشروع الصهيوني الاستيطاني العنصري، وإمكانية تطوّر سيناريوهات مختلفة تطرحها تطورات الأمر الواقع، بما يخدم تعميق الاحتلال والاستيطان والعنصرية مع استمرار إنتاج وإعادة إنتاج آليات سيطرة وتحكم خاصة بكل من التجمعات الفلسطينية على جانبي ما يسمى بـ"الخط الأخضر".

في المقابل، يترتب على رفض الفلسطينيين التسليم بهذه السيناريوهات في ظل انسداد الأفق أمام سيناريو "حل الدولتين"، التحوّل باتجاه تبنّي مفهوم الصراع المفتوح القائم على الكفاح متعدد الأشكال والأدوات، وفق ظروف مختلف التجمعات الفلسطينية في الوطن والشتات، من أجل إحداث تغيير في ميزان القوى السائد.

ويتطلب مفهوم إبقاء الصراع مفتوحاً، التوافق على استراتيجيات كفاحية وسياسية واقتصادية واجتماعية شاملة قادرة على تحقيق الهدف الاستراتيجي للمشروع الوطني، المتمثل في إنهاء الاحتلال والاستيطان والعنصرية وضمان ممارسة الشعب الفلسطيني أينما وجد لحقه في تقرير المصير، بصرف النظر عن النتائج التي سوف تترتب على ذلك (دولة مستقلة، دولة واحدة أو ثنائية القومية... إلخ).

وطالما ظل الصراع مفتوحاً، ينبغي للمشروع الوطني أن ينطلق في جوهره من طابعه الجمعي المعبّر عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، التي تشكل إطاراً ناظماً لركائز المصلحة الوطنية العليا (الميثاق الوطني)، وللبرنامج السياسي المتوافق عليه في إطار منظمة التحرير، بعد إعادة بناء وتفعيل مؤسساتها كإطار جبهوي يعتمد مبادئ الانتخابات حيث أمكن، والشراكة السياسية دائماً، بما في ذلك إيجاد آليات لإشراك الفلسطينيين في أراضي 48، عبر مؤسساتهم التمثيلية الوطنية، في عملية صنع القرار الوطني.

في هذا السياق، فإن تحقيق المصالحة بما تعنيه من إعادة بناء الوحدة الوطنية بالاستناد إلى "تسوية تاريخية" يتم التوافق على أسسها الموجهة بين التيارات والقوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية والإسلامية، التي تقبل بمبدأ الشراكة السياسية، ينبغي أن يندرج في سياق عملية إعادة تعريف القضية الفلسطينية، بصفتها قضية تحرّر وطني تعبر عنها منظمة التحرير كإطار تمثيلي حقيقي يرفع راية تحقيق المشروع الوطني الجمعي.

لكن مثل هذا التحوّل في المنظومة الفكرية الفلسطينية لإطار الصراع (البراديغما)، لن يحدث إلا عندما تقتنع القوى السياسية والنخب الفلسطينية، ومعها قطاعات واسعة من "المجتمع الدولي"، بأن إطار التسوية القائم على أساس "حل الدولتين" عبر مسار التفاوض الثنائي وصل إلى نهايته. وهي عملية لن تتم إلا بشكل تدريجي يلحظ ضرورة توفير متطلبات الانتقال من النقطة التي يقف فيها الفلسطينيون الآن إلى منظومة الصراع الاستعماري الاستيطاني العنصري بتبني استراتيجية بديلة تركز على تجسير الفجوة القائمة بين قيود اللحظة الراهنة ومتطلبات التحرّر منها نحو فضاء استراتيجي جديد. وهذه نقطة البداية كي لا تظل النكبة "مستمرة".

دلالات