كيمياء الضحك

كيمياء الضحك

09 يناير 2019
+ الخط -
"إننا في كلّ مرة نضحك فيها نقدّم الدليل على أننا نسخر من شخص أو من حال معيّن، متهكمين وهازئين بالرذائل".

تلخص تلك الكلمات الواقع الإنساني العربي عموماً، وفي المشهد على خشبة المسرح السوري تحديداً، تبدو التجربة الاستثنائية التي تحمل في طياتها تلاحماً بين التراجيديا والملهاة؛ ما يجعل من الطبيعي تفسير ارتفاع رصيد سلسلة اللوحات الفنية التي تحمل طابعاً نقدياً يثير لدى الجمهور حالة "الضحك"، كتلك التي قدّمها الفنان السوري الكبير ياسر العظمة تحت عنوان "مرايا" بدلالته البعيدة.

الفن العربي الساخر قدم إيحاءً وملامسةً لفصول مسرحية واقعية، تبدأ بخلل سياسي واقتصادي، لتمتد إلى مفاصل كل بيت، وتخيم بالضرورة على المجتمع، بقالبٍ إصلاحيّ ناعم، كتلك الأعمال التي قدمها الفنان المصري محمد صبحي، ولعل مسرحيته "تخاريف" تختصر رسائل كثيرة تلقاها الشباب بالبسمة والضحك أولاً، سرعان ما فهم كنه الرسالة، وتحول تلقائياً إلى مرحلة التغيير.

الأمر الذي يؤكد أنّ الشارع العربي يسعى خلف الرؤى التي تعبِّر عن إنسانيته ورغباته؛ التي تقف في سلم أولياتها "إصلاح البنية والبيئة السياسية"؛ لخلق حالةٍ من التوازن. وفي ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه "الضحك": "حين يضحك المرء من شخص آخر أو من تصرفه فإنه يقوم بدور المصلح الاجتماعي؛ لأنّ الضحك يلفت النظر إلى العيوب التي تسيء للمجتمع وتصيبه بالخلل".


كما أنّ واقع حياة الناس في المجتمعات العربية يحمل في ثناياه ذاك المزيج المتناقض، الهزل/ الجد، الحرية/ الجبرية، الفوضى/ الرتابة، العبث/ المعقول، الموت/ الحياة، هذه المتناقضات تخلق قالباً كوميدياً تنتهي إليه الحاجة إلى السخرية والضحك أمام مرآة المأساة التي تخيم على واقع الإنسان العربي منذ خروجه إلى العمل وحتى عودته إلى بيته، وتلك الحالة تسمى أدبياً "بالترويح الكوميدي"، وهو المشهد الذي يعقب مأساةً بالغة التوتر على ما في هذه التسمية من مفارقة نقدية لا شعورية.

إننا كعرب يومياً نواجه تناقضات الحياة ومفارقاتها، وحين نسخر من الواقع لا نقصد إثارة حالةٍ من الهياج الصوتي التي يعبرُ عنها بـ"الضحك"؛ وإنما يمكن تفسير ذلك المشهد "التهكم بالواقع" بأنه عبورٌ بين حالتين، وكأنّ الضحك جسرٌ بين أرض التراجيديا والكوميديا.

بالتالي؛ يصبح الضحك منطقة فاصلة بين القنوط والأمل، من خلاله يحافظ الإنسان على سلامة عقله متخذاً السخرية من هموم الحياة وسيلة إلهاء وتسلية، وبلغة السياسات الديكتاتورية "تنفيس"، ما يجعل للضحكة نكهةً ذات مرارة، ولا سيما حين تعرضها للجانب اللاعقلاني في مشكلتي الشرّ والموت.

ولعلنا في إحدى لوحات مسلسل "مرايا 98" تحت عنوان "من حكايا الوالي سكجك"، نلمح موقفاً يشرح فكرة تجيير "النكتة والضحك" لصالح الحاكم صاحب الرؤية المتسلطة، وكيف يشير إليه مستشاره بفتح "ديوان النكت" بهدف التنفيس عن الناس، بعد الإحساس بحالة غليان الشارع تجاه ظلم الوالي، المشورة تلك انقلبت على رأس صاحبها - ليس فقط في تلك اللوحة الفنية، بل في المشهد السوري والعربي عموماً - وذاكرة الناس تعجُّ بمثل ذلك.

إذاً؛ الضحك ما بعد إطلاق "الفكاهة" التي يصدرها الناس في أساسها، ما هو إلا نوعٌ من "التطهير" كما يسميه "فرويد" أو المتنفس للمكبوت من العواطف، من ثم؛ فالمزاوجة بين -الفكاهة والضحك - على هذا النحو ليست مجرد تسلية بل تعتبر وسيلةً لفضح حالة معينة سياسية أو اجتماعية، تحولت بالواقع إلى ظاهرة عامة أو تكاد.

بالمحصلة؛ الضحك حالة كيميائية فيسيولوجية أساسية، تخلقها التناقضات التي تمر في يوميات المواطن العربي، والإنسان عموماً، ولها ما يبرر وجودها، ووظيفتها، كما أنّ لها أهدافها وغاياتها الاجتماعية والسياسية، والجميع "الراعي والرعية" يوظفها في خدمة مصالحه.

والواقع يؤكد أن التفاعلات الكيميائية في حياة الناس بين ما هو مادّي ونفسي، مع ما تحمله من متاعب وهموم في إطارٍ من التناقض تدفع الإنسان للهرب بالتهكم؛ ما يخلق تلك التعبيرات بالصوت، الضحك، كأحد أبواب الفرار أو التمسك بالأمل.
avata
فرات الشامي

كاتب صحفي وناشط إعلامي سوري