كيف أصبح الإخشيدي والمتنبي مقصداً للشعب التونسي؟

كيف أصبح الإخشيدي والمتنبي مقصداً للشعب التونسي؟

29 أكتوبر 2019
+ الخط -
الشعب التونسي مثله مثل كل شعوب البحر الأبيض المتوسط يتميّز باختلاف الثقافات وتنوعها، بل أكثر من ذلك قد يتجاوز الأمر مجرد التنوع نحو التمازج والاندماج في كينونة أغلب الحضارات التي مرت على البلاد التونسية، مما خلق على مرّ العصور عمقا كاملا لكل ثقافة على حدة، وأسهم في موسوعات إنسانية وفكرية متناغمة مع البيئة والزمن التي ولدت فيها تلك الموسوعة.

ولعلّ البيئة العربية الإسلامية أكثر البيئات الثرية التي لم تخل أبدا من أحداث وطرائف إنسانية تستدعي البحث في جوهرها بعمق أكبر لفهم ظروف وقوعها، حيث كانت حادثة المتنبي مع قائم مقام عرش مصر كافور الإخشيدي محل دراسة وبحث من أغلب شباب تونس، بعد أن استشهد بها الرئيس التونسي "قيس سعيد" في أحد خطاباته أثناء حملته الانتخابية، للدلالة على أن من سبقه من المرشحين قد أعطوا وعودا واهية للشعب التونسي ولم ينفّذوا ولو جزءا يسيرا منها، فكان أن مثل ذكر اسم الإخشيدي صدمة حضارية لجميع التونسيين الذين يجهلون من يكون كافور الإخشيدي، ليلتجئ أغلبهم إلى موقع السيد "غوغل" للتعرف على هذه الشخصية التاريخية التي ملأت دنياهم تساؤلات وشغلت حتى الأمّي فيهم..

وكأن الإخشيدي أصبح همّ جميع التونسيين حينها، ليسعى أغلبهم لفهم كيف غدر بشاعر القرن الرابع هجري أبو الطيب المتنبي ولم يفه وعده له بتنصيبه واليا على إحدى المقاطعات المصرية، وتسويفه له إلى الحد الذي قام بهجائه يوم العيد في قصيدة مشهورة مطلعها "عيد بأية حال عدت يا عيد"..

ما تجدر الإشارة إليه أن الرئيس قيس سعيد حينها، لم يدغدغ فكر التونسيين بتصوراته الثورية لشكل الحكم في تونس وما يستتبعه من نظرة أخرى للمجتمع والاقتصاد والثقافة، بل أمر مخيلتهم ولو بشكل غير مباشر بالبحث أكثر ما يمكن في التاريخ العربي الإسلامي، وما استبطنه من مسارات متعرجة تصحبها الخيانات والمؤامرات، وأن الحكم عموما ربّما تغير في شكله، أكان في عهد كافور الإخشيدي، أو في عهد بورقيبة وزين العابدين بن علي، أو حتى في عهد ما بعد الثورة، ولكنه أبدا لم يتغيّر في مضمونه.

وعليه فإن طرافة الاستشهاد بحادثة الإخشيدي والمتنبي حينها، في حدّ ذاتها، تستدعي فهما أعمق لعبقرية هذا الرجل في التمكّن من القدرة على دفع التونسيين بمختلف مشاربهم إلى التساؤل، ثم البحث ودراسة أشكال الحكم، ممّا يعطيهم فكرة واسعة وصافية عن ملامح مرشّحهم الرئاسي، على عكس المرشح الرئاسي الثاني السيد نبيل القروي الذي ارتأى أن يخاطب بطون الجائعين في المناطق المفقّرة على حساب عقولهم، ولم يتوانَ عن أن يسخّر إمكانيات جمعيته في دغدغة واقعهم اليومي التعيس، ليستدرج المرشحين في سابقة تاريخية لم يشهدها العالم سابقا إلى معركة بين الشوكة والقلم.. بين الفكر الجائع والبطن الأجوع.. بين مخاطبة الفكر ومخاطبة الأمعاء.. ثم بين العقل الواعي والعقل الباطن.