كيري وشبح الأبارتايد الإسرائيلي

كيري وشبح الأبارتايد الإسرائيلي

07 مايو 2014

تظاهرة في الأردن ضد إسرائيل بذكرى النكبة (2011 Getty)

+ الخط -
حين قال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، ما قاله بخصوص إسرائيل و"إمكانية" تحولها دولة أبارتايد (تمييز عنصري)، فإنه كان في ذلك يُشاطر الرأي عدداً غيرَ قليل من زعماء إسرائيل وقادتها الأمنيين. ولكن، هذا الأمر لم يُعْفه من هجومٍ شرس في إسرائيل نفسها وفي واشنطن، اضطره إلى التقهقر الدفاعي. ولم تُفْض تفسيرات الناطقة الإعلامية لوزارة الخارجية، جين بساكي، إلى وضع الأمور في نصابها، فالوزير عبّر ببساطة، كما قالت، عن موقفه أن "حل الدولتين هو الطريق الوحيدة أمام إسرائيل، إن أرادت البقاءَ دولةً يهودية".
واقع الحال أن كيري لا يحذّر من الأبارتايد، من حيث هو كذلك، بل من نتائجه على إسرائيل. إنّه يخشى، أو يقول إنه يخشى، المقاطعة التي ستنجم عن وضعية الأبارتايد. وهو، في الحقيقة، يخشى أن تتعرض إسرائيل لخطرٍ لا يريده لها، وهو خطر أن تُصنف دولةَ أبارتايد، وخطرَ أن تُعزل، أي أن يصبح مصيرها مصير جنوب إفريقيا البيضاء نفسه، أي تفكيك الأبارتايد. إنه، بذلك، ينضم إلى الذين يعتبرون أن مهمتهم، بما هم أصدقاء لإسرائيل، العملَ على نصحها، وعلى تحذيرها من عاقبة ما تقوم به؛ وعلى مساعدتها على تجنّب عقابيله، وإنقاذَها، إن اقتضى الأمر، من حماقاتها، ومن نزوعها الانتحاري الذي تندفع فيه.
ويعرف جون كيري أنه لم يأت بجديد في الحقيقة، فقد سبقه إلى ذلك من الأميركيين الرئيس الأسبق جيمي كارتر، والذي انتقد سياسةَ المحافظين الجدد الذين تسيّدوا أيام جورج دبليو بوش. وأفصحَ، خصوصاً، عن أسفه لأن الإدارة الأميركية أيدت الحربَ التدميرية التي شنتها إسرائيل ضد "الإرهاب" الفلسطيني، أيام الانتفاضة الثانية. وحذّر في كتاباته وتصريحاته من سياسة الدعم غير المشروط التي تعتمدها الإدارات الأميركية المتعاقبة إزاء إسرائيل، ومجافاتها القانون الدولي. وقد اختار لكتابه المخصص للموضوع الفلسطيني عنواناً مُعبّراً هو (فلسطين: السلام أو الأبارتايد).
  
ثم إن جون كيري يعرف أن زعماء إسرائيليين، من سياسيين وأمنيين، كانوا سباقين في التحذير من طريق الأبارتايد الذي تسير عليه إسرائيل، فقد قال، في مرافعته عن نفسه، إن ما قاله كان "قاله أيضاً رئيسُ الوزراء نَتنياهو. في حين أن وزيرة العدل، تسيبي ليفني، ورئيسي الوزراء السابقَيْن، إيهود باراك وإيهود أولمرت، استدعوا جميعاً شبح الأبارتايد،  للتأكيد على الأخطار المستقبلية للدولة الواحدة". 
ومع أن تصريحات كيري لم تكن علنية، إذ قالها في جلسة مغلقة في واشنطن، قبل أيام، لكن ما أثار كل هذا اللغط الذي لم يهدأ بعدُ أن صحيفة إلكترونية نشرتها. إنه اللغط الذي يتعلق بشبح الأبارتايد، بحسب تعبير كيري نفسه. والحقيقة أن هذا الشبح في عرف الأخير، كما في عرف منتقديه من الإسرائيليين وأنصارهم، لا يعني غير شبح الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية أو الانتدابية. وهو ما حذّر منه ديفيد بن غوريون نفسه في معرض دفاعه عن اتفاقيات الهدنة للعام 1949، فقد بيّن أنه اختار دولة يهودية على جزء من أرض فلسطين، بدلاً من دولة على كل الأرض الفلسطينية، لأن اليهود سيصبحون في هذه الحالة الأخيرة أقلية. وهو ما يتحاشاه. 
ما يثير حنق الإسرائيليين، ويدفع أنصارهم إلى الاستنكار، هو، كما يبدو، كلمة (الأبارتايد)، وليس النظام الذي تحيل إليه. ومن غير الممكن ألا نعرف أن جميعهم يعرفون ما يفعلون، يعرفون أن الوقائع على الأرض هي وقائع نمط أشد فظاعة من الأبارتايد في جنوب إفريقيا سابقاً. تثيرهم الكلمة لأنها تضعهم أمام صورتهم، كما تنعكس في مرآة أنفسهم، وقبالة صورتهم التي يخشون أن يتعرف العالم عليهم من خلالها. إنهم لا يريدون للعالم أن يرى فيهم صورتهم التي يعرفونها في أنفسهم، أي هويتهم، من حيث هي كذلك.
كيف يمكن تفسير واقعة أن الصهاينة لا يظهرون تبرماً بالوقائع التي تتأسس على الأرض، بخصوص نظام التمييز المطلق بين صنفين من الناس، وبين مجموعتين من السكان، في حين ينصبّ تبرمهم على الكلمات، فحسب؟ وإذ نعلم أن المُشرّعين في كل مكان في العالم لا يحظرون أمراً لا يمارسه أحد، أو لا يرغب أحد فيه، نفهم لماذا وكيف يريد (اللوبي) تحويل كلمة الأبارتايد إلى (تابو)، يُحظر استخدامها وتداولها، تحت طائلة الوقوع في المحظور. تمنع الأشياءُ لأنها مرغوبة، وتُحظرُ لكون الرغبة فيها تستوجبُ الحظر. وهم يريدون منع الكلمة، لأن تشخيص إسرائيلَ نظامَ أبارتهايد صار اليوم مألوفاً، إلى درجة تثير مخاوفَهم المرضية. قالت جين بساكي إن جون كيري "يدرك أن قوة الكلمات قد تخلق انطباعاً خاطئاً". إنهم بالضبط يريدون وأد هذا الإنطباع "الخاطئ"، فقد صار المصطلح رائجاً إلى درجة تتطلّب التخلّص منه. ألا يشكل الانتشار المضطرد لحركة المقاطعة، بما في ذلك في جامعات الولايات المتحدة الأميركية نفسها برهاناً على هذا الرواج؟
يتوسلون بالكلمات إخفاء الأمور، وبالكلمات المُجوَّفة، يودّون لو تمكنوا من إخفاء الوقائع. وإلا أين نضع بيان "إيباك" في رده على تصريحات كيري: "أية إشارة إلى أن إسرائيل هي، أو من الممكن أن تصبح، دولة أبارتايد تشكل إهانة لا محل لها. فالدولة اليهودية نور يشع من أجل الحرية، وهي تمثل حظاً لمنطقة تعاني من الإرهاب والكراهية والقمع"؟

 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.