كورونا تعيد طرح الأسئلة الكبرى

كورونا تعيد طرح الأسئلة الكبرى

11 مايو 2020
+ الخط -
على الرغم من الطابع المأساوي لأزمة كورونا، وما ولّدته من ضحايا وتعطيل لحركة العمران وسير المجتمعات، إلا أنها كانت بمثابة صدمة لازمة لإيقاظ الوعي الإنساني بحقيقة المخاطر الوجودية المحدقة، وطبيعة المتاهات التي انزلق نحوها الاجتماع السياسي الكوني، بوعي أو من دونه. وقد أعاد هذا الوباء المعولم النقاش مجدّداً في قضايا الاقتصاد والصحة والبيئة، والدولة، والعولمة، والأسرة والعلاقات الحميمية، ودور العلم، ومسألة الوجود والمعنى، وثنائية الحياة والموت، وغيرها.
هوّن الرئيس الأميركي، ترامب، في بداية الجائحة من شأن ما سمّاه الفيروس الصيني، زاعماً أن من يروجون هذا الخطر يقعون في التهويل، وهم يقصدون من ذلك التقليل من حظوظه في الفوز في انتخابات الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ويسعون إلى ضرب الاقتصاد الأميركي المنتعش في مقتل. أما رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، فقد تبنى، في البداية، ما سمّاها مناعة القطيع، قبل أن يضطر بعد ذلك إلى سحب هذه النظرية أمام انتشار العدوى على نطاق واسع، وبعدما اختبر هو بنفسه، قبل غيره، مدى صلابة نظريته في مناعة القطيع، التي كادت تودي بحياته.
ملخص هذه المقاربة التي روّجها جونسون، أن أجسام المواطنين تكتسب، بعامل الوقت، نوعاً من المناعة الذاتية في مواجهة الأمراض والأوبئة. مع قبول حقيقة مرّة، ولكنها ضرورية، وهي تلف نسبة من الأرواح البشرية من بين جمهرة "القطيع" لا تتوافر على المناعة المطلوبة، مقابل ذلك تُضمَن حركة السوق واستمرار عجلة الاقتصاد. ولذلك، لم يتردّد بوريس جونسون 
في صدم الرأي العام البريطاني بالقول إن كثيرين منكم سيفقدون أقارب وأحباء، وعليكم أن تتهيأوا لذلك.
لا يتعلق الجدل الذي يدور هنا بمجرد خلاف سياسي أو علمي في كيفية التعاطي مع هذه الجائحة العالمية، بقدر ما يتعلق بالفلسفة العامة التي تقف خلف هذا النقاش السياسي والأخلاقي، وملخصه هنا: هل الأولوية للاقتصاد والمنافع أم للإنسان أولاً وآخراً؟ هذا لا يعني أن الموقف الذي تبناه ترامب كان مؤسّساً فكرياً وفلسفياً، بقدر ما كان الرجل يعبّر عن منزع رجل أعمال براغماتي، وسياسي مكيافيلي تشبّع بالقيم النفعية (Utilitarianism) من قلب المنافسة الاقتصادية والصراع السياسي في الحلبة الأميركية. وفي هذه الدوامة الساخنة، لا اعتبار لمسألة القيم أو مكانة الإنسان والحياة والموت أمام حسابات الربح والخسارة، وأمام لغة الأرقام والمضاربات المالية والبيانات الاقتصادية الباردة، والأهم من ذلك أمام رهانات المنافسة الانتخابية التي قرب موعدها.
والحقيقة أن نظرية مناعة القطيع المنحدرة من الذرائعية الأنغلوساكسونية لم تكن تمتلك مقومات الصمود أمام الرأي العام البريطاني، والغربي عامة، لسبب بسيط، أن ما كان مقبولاً شعبياً قبل قرن أو قرنين، مع الإنفلونزا الإسبانية وما قبلها، لم يعد مقبولاً اليوم. فمع تقدم الطب الحديث، وتحسّن الرعاية الصحية، وارتفاع معدلات الحياة، وصعود ما يسمى مجتمع المتعة والتمركز حول الجسد، ليس من اليسير على الشعوب التعايش مع مشهد الموت "الموسّع" الناتج من الأوبئة والجوائح المهلكة. كذلك من العسير ابتلاع نظرية الانتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح الداروينية، لسبب بسيط، أن كل فرد في هذه الحالة سيرى نفسه معنياً قبل غيره بمقامرة الحياة والموت ولعبة الانتقاء الطبيعي.
مؤكّد هنا أن نقاشاً كثيراً سيجري في الأوساط الفكرية والإعلامية، وحتى السياسية، في الديمقراطيات الغربية، بشأن قضايا السوق والمنفعة ودور الدولة في القطاعات غير الربحية، من تعليم وصحة، وفي حماية الفئات الضعيفة وغيرها، وقبل ذلك حماية أرواح المواطنين وأبدانهم. وربما أثارت المعادلة التي فرضتها كورونا النقاش، ووجّهت المسالك السياسية والاقتصادية لسنوات مقبلة هنا: هل الأولوية للإنسان وضمان صحته وتعليمه ورفاهه العام؟ أم الأولوية للأسواق والاستثمار والبورصات والبنوك؟ هل يمكن البشر أن يسلموا قيادة حياتهم 
ومعاشهم لصالح الشركات التي لا تعمل إلا وفق حسابات الربح والخسارة؟
وأظهرت هذه الجائحة حجم الخلل الذي ظل يكبر مثل كرة الثلج ويتفاقم سنة بعد أخرى، أعني بذلك الإهمال الواسع الذي لقيه القطاع الصحي العام، نتيجة خيارات منهجية مدبرة ومخطط لها، تقوم على الخوصصة (الخصخصة) وإدخال ثقافة الربح وقيم السوق في مجال الرعاية الصحية وحياة البشر. يعتمد النظام الصحي في الولايات المتحدة الأميركية، إلى حد كبير، على شركات التأمين الخاصة، وحينما جاء الرئيس السابق، أوباما، وبادر إلى خطوة جريئة باتجاه منح بطاقات العلاج العمومي للفقراء، شنت عليه قوى اليمين وشبكاتها الإعلامية المتنفذة حملة شرسة. وعليه، كان من أولى قرارات ترامب، بعد دخوله البيت الأبيض، وفي أجواء احتفالية، إلغاء الإجراءات الصحية التي أدخلها أوباما.
وكشفت أزمة كورونا الوجه المخيف للولايات المتحدة، ومن ذلك هشاشة منظومتها الصحية وعجز مستشفياتها عن توفير الحد الأدنى من التجهيزات الصحية، بما في ذلك أدوات الوقاية للطواقم الطبية. إنه مشهد سوريالي فعلاً، أن يشاهد العالم بعض الممرّضات في أثرى البلدان، وأكثرها قوة، وهن يرتدين أكياساً بلاستيكية، ويشتكين من عدم وجود بدلات صحية وأدوات واقية من الفيروس. ولا يعود هذا الأمر إلى قلة إمكانات أو شحّ موارد في بلدٍ هو الأغنى على وجه كرة الأرض، بل هو وليد خيارات سياسية واقتصادية غير متكافئة، تعطي الأولوية القصوى لصناعة السلاح وكبار الشركات على حساب رفاه المواطن وصحته العامة. ويبيّن هذا الأمر تهافت تلك المقولة التي روجها كثيراً الليبراليون، ومفادها أن مصلحة الأفراد تؤول، في نهاية المطاف، إلى مصلحة المجموع. إذ يبرز الواقع أن مصلحة "جنرال موتورز" أو "جنرال إلكتريك" ليست بالضرورة مصلحة عموم الأميركيين، قبل أن نتحدث عن مصلحة العالم.
بينت جائحة كورونا الطابع الاستراتيجي لقطاع الصحة، مثلما بيّنت الدور الحيوي للدولة أوقات الأزمات والنكبات، ولذلك اضطرت الدول الى ضخّ الأموال على عجل لبناء المستشفيات 
وتجهيزها، بل سُخِّرَت الجيوش ومختلف أجهزة الدولة لمعاضدة القطاع الصحي العمومي. وقد كان أداء الدول الغربية نفسها متفاوتاً على هذا الصعيد. فبينما أظهرت ألمانيا والبلدان الإسكندينافية وتركيا جاهزية قوية في مواجهة الجائحة، بدت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا ودول جنوب أوروبا مرتبكة ومتخبطة.
ولعل أكثر العناصر الإيجابية التي ولدت من رحم جائحة كورونا شعور الجميع، بما ذلك الحكومات اليمينية وسائر الأحزاب، أن القطاع الصحي أصبح استراتيجياً، ولا يمكن تركه نهباً لشركات المضاربات والتأمين، أو العبث بحياة المواطنين وصحتهم لصالح رهانات الربح والخسارة ومنافع الشركات الخاصة. كذلك فإن من بعض مظاهر الخير الملازم لشر هذه الجائحة، أنها ذكّرت الجميع بأنهم بشر متساوون في المرض والمعاناة والموت، وأنه لا فرق هنا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين سكان الشمال والجنوب، ولا بين الأوروبيين والأفارقة، فهذا الفيروس الفتاك ينبهنا جميعاً إلى وهن الوجود الإنساني في مواجهة الموت، وأن مدن الرفاه، بأنوارها وحركتها الصاخبة، ليست محصنة بالكامل من حتمية الفناء. والحقيقة أن "كوفيد 19" الذي يضرب اليوم بشراسة في الولايات المتحدة وأوروبا وكبريات العواصم الدولية لا يختلف كثيراً في تهديده الحياة وضرره الصحي عن مرض إيبولا الذي ضرب فقراء أفريقيا المساكين، ولم يلقَ اهتماماً بالقدر الكافي من وسائل الإعلام الدولية.
نحن هنا وكأننا إزاء انتقام البيولوجيا من التكنولوجيا، وانتفاض الطبيعة على جشع النظام الرأسمالي الذي ينفق على الجيوش عشرات مرات حجم ما ينفقه على الصحة والأبحاث الطبية والتعليم، بعد أن ربط ذلك بقيمة التربح وسوق العرض والطلب. وربما ساهمت هذه الأزمة، على خطورتها، في بثّ روح التواضع، والتخفيف من النزعة الأنانية لدى الإنسان وغروره وطيشه في التعامل مع الطبيعة والكون وشركائه من بقية الخلق. كذلك فإنه يجب الانتباه إلى أن فترة المحن وقسوة الطبيعة والكوارث تبرز الطابع المركّب والمتناقض للكائن البشري، حيث يظهر هنا الوجه المشرق للإنسان من إيثار وتضامن وشعور بالآخرين، مثلاً تظهر فيه الجوانب القبيحة والمظلمة، من تحايل واستثمار في حاجات الناس، وحتى السرقة والغش وغيرهما. لكن ذلك كله يذكّرنا، في نهاية المطاف، بإنسانيتنا التي يتداخل فيها الخير مع الشر.