كمال بُلاّطه: "استحضار المكان" وتجارب أصحابه

19 اغسطس 2020
("وكان النور" للفنان كمال بُلّاطه)
+ الخط -

في 6 آب/ أغسطس 2019 رحل في مدينة برلين الفنان والمؤرخ الفلسطيني الرائد كمال بُلّاطه بعد نصف قرن في المنفى. وبعد قرابة أسبوعين من الصراع مع سلطات الاحتلال تمكّنت أُسرته من نقل جثمانه ليدفن في مسقط رأسه، حيث واراه ثرى القدس عصر يوم 19 آب/أغسطس، وكانت أول عودة لشخصية ثقافية فلسطينية ترحل في أرض اللجوء. اعتُبرت عودة كمال إلى القدس بشارة عودة. الفنان اليوم ينام في ثرى بلاده وينتظر العائدين.

المحرِّر

 

يغلب على معظم القراءات للفن التشكيلي الفلسطيني، والعربي عموماً، تحليل الأعمال المدروسة مع الإشارة إلى سيَر أصحابها بوصفها مجرّد خلفية في أفضل الأحوال، دون إيجاد تلك الصلات الوثيقة بين الفن وتطوّر السياق الاجتماعي والثقافي الذي مثّله، بحيث يبدو الفن شبه منفصلٍ عن منبعه.

لقد ثبّت كمال بُلّاطه (1942 - 2019) علامةً مؤسّسة في الكتابة النقدية التي تمسك بذلك الارتباط العضوي بين المبدع ومنتجه الإبداعي، وتضمّنها كتابه "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 2000)، حيث يشير في تقديمه إلى واحدة من أبرز معضلات الكتابة في هذا الموضوع، وهي "التركيز على الطابع السياسي في تفسير أي منتوج ثقافي..".

في مئتين وثمان وستين صفحة، يضع الفنان والناقد والمؤرّخ الفنّي الفلسطيني، الذي حلّت ذكرى رحيله الأولى في السادس من الشهر الجاري، خلاصة بحثه الطويل والمعمّق لأكثر من ثلاثين عاماً منذ محاضرته التي ألقاها في "جامعة واين" الأميركية عام 1968، ونُشرت في ما بعد بمجلة "مواقف" البيروتية، متحرّراً من النظرة الأيديولوجية التي حكمت الثقافة الفلسطينية لعقود طويلة، وربما لا تزال بقاياها حاضرةً إلى اليوم.

يؤطّر بُلّاطه مرحلة زمنية تبتدئ منذ منتصف القرن التاسع عشر وتنتهي في أواخر القرن العشرين، وهو ما لم يسلكه باحث من قبل، لكنه لم يسع إلى تأريخ الفن الفلسطيني كما يؤكّد في أكثر من موضع في كتابه، بل كان يستبصر انعكاسات ذلك التاريخ وتداعياته المرتبطة بأحداث كبرى واتجاهات فكرية وسياسية، واعياً بوضوح تأثيرها في الأدب والفنون، في واحدة من أهمّ الدراسات الثقافية التي تستجلي جذور اللوحة على مدار قرن، والتي كان لها دورها في إنضاج الحداثة التشكيلية الفلسطينية.

خلّص المدوّنة النقدية الفلسطينية من الإنشاء والجفاف الأكاديمي

تعود هذه الجذور، بحسب الكتاب، إلى التراث الفني الهيليني الذي بدأ أفوله بحلول القرن السابع عشر ليشهد المشرق العربي انبعاثاً جديداً له ونهضة مبتكرة محلية، لافتاً إلى أن مدينة القدس عرفت تطويراً للغة الأيقونة البيزنطية من خلال استلهام أساليب تعبيرية مشابهة في سماتها للأساليب التي رسّختها مدرسة حلب، ما أسماه المؤرّخون الفنيون بسمات "مدرسة القدس في التصوير الأيقوني".

لا يدرس بُلّاطه فقط مسار أقلمة (تعريب) الأيقونات في المدينة المقدّسة عبر دمج المصوّرين تفاصيل من الحياة الفلسطينية، وجعل النص الإنجيلي أو الأسطورة الدينية أكثر قرباً من التجربة المعيشة على الصعيد اليومي، وكيف أصبحت الأيقونة المقدسية ذات الحجم الصغير من المقتنيات الأساسية لدى العرب المسيحيين، وبات توقيع مصوّريها وسماً مطلوباً، ومنهم حنا القدسي وجريس نعمة ومتري ثيودوري وكوستي تادرس وآخرون، ولكنه يحلّل أيضاً بإيجاز وتكثيف مسار التعريب وعلاقته بالنزاع بين الأرثوذكس العرب وسلطة كنيستهم اليونانية.

غلاف الكتاب

تحليل يقف عند أسباب إضافية ساهمت في تعريب الأيقونة البينزطية الذي رافق سلسلة من الحركات الإصلاحية الاحتجاجية التي قادتها نخبة مقدسية للاستقلال عن اليونان، أسوة بأشقائهم في دمشق الذين انتخبوا أول بطريرك عربي عام 1899، لكنه لا يستبعد كذلك عوامل فنية قادت المصوّرين المقدسيّين إلى تصوير اللوحة الفنية خالية من المضمون الديني.

يفصّل بُلّاطه مسائل تركت حضورها القوي على الفن الفلسطيني آنذاك، وفي مقدّمتها حضور الأيقونوغرافيين والمصورين الفنيين الروس منذ أواسط القرن التاسع عشر ومسامتهم في تطوير الفن الفلسطيني، في فترة سادها دعم رسمي من موسكو قاد إلى تأسيس أول معهد تعليمي وطني على يد المربّي واللغوي خليل السكاكيني، إلى جانب التعريف بالأدب عبر الترجمات الأولى لبوشكين وتولستوي التي نقلها عن الروسية مباشرة الكاتب خليل بيدس.

يضيء تعريب الأيقونة البينزطية على يد المصورين المقدسيين 

ويتتبّع الكتاب تجارب العشرات من أولئك المصوّرين من أمثال نقولا الصايغ وخليل حلبي ومبارك سعد وتوفيق وفخري جوهرية وداود زلاطيمو وزلفة السعدي وجمال بدران، وغيرهم ممن لم يكترثوا لتأسيس الصهاينة "معهد بتسالل للفنون والحرف" عام 1906، وازداد وعيهم بقدراتهم وإمكانية تطويرها.

ويختتم بُلّاطه هذه المرحلة التأسيسية بإشارة ذات معنى كبير لما أحدثته النكبة، حيث يقول "في تلك الأيام التي تجرّد فيها الفلسطينيون من إرثهم وكافة ممتلكاتهم العائلية التي تضمّنت مجموعاتهم الفنية، اختار دافيد بن غوريون متحف الفن بتل أبيب ليعلن منه قيام دولة إسرائيل".

يشكّل هذا التأصيل العلمي والممنهج فاتحة ضرورية لفهم التحولّات الفنية بعد عام 1948، بدءاً من تلك المحاولات التي ظهرت في العقد اللاحق ولم يتح لها الاستمرار بسبب ظروف الاحتلال أو اللجوء، ومنها ما قدّمه جمال بياري في يافا، وإبراهيم حنا إبراهيم في الجليل، وصوفي حلبي في القدس، وجون مطر في كندا، إلا أننا سنكون أمام أسماء أكثر رسوخاً للفلسطينيين في أماكن لجوئهم مثل بول غيراغوسيان وجوليانا ساروفيم وإبراهيم غنام في لبنان، وإبراهيم هزيمة في سورية، وإسماعيل شموط الذي بدأ مشواره في غزة، ومصطفى الحلاج في مصر، وناجي العلي في رسوماته المبكرة بالزفت في مخيم عين الحلوة بلبنان.

بالإضافة إلى توثيق بُلّاطه ما لم يسبق توثيقه من تجارب، ركّز على دلالات تلك المسافة الفاصلة بين المكان الذي وُجد فيه المبدع الفلسطيني وبين المكان الذي قدِم منه، وعليه بنى مقاربته للفنانين الذين "تفتحت مواهبهم ونمت في الأردن"، موضحاً أنهم "لم يعتبروا مجرّد مسهمين في التطور الفني للبلاد فحسب بل اعتبرت إسهاماتهم جزءاً لا يتجزأ من تطور حركة الفن التشكيلي فيها".

ركّز على دلالات المسافة الفاصلة بين مكان المبدع ومكانه الأول

بعد إضاءته الجغرافيا العربية التي سكنها الفنانون الفلسطينيون، يعاين الكتاب حال من خضع منهم للاحتلال منذ عام 1948، حيث شكّلت الأرض المكانة الرئيسية في العمل الفني قابضاً على العلاقة الجوهرية بين الفضاء العام والفنان كما توضّحها نصب الفنان عبد عابدي، أو لوحات وجداريات أسد عزّي الموجودة في بلدات الجليل، وبسبب غياب المؤسسات الفنية في ما تبقى من فلسطين التي احتلت عام 1967، أخذت المدارس والبلديات والمكتبات العامة محلّ قاعة العرض وسط سياسات تضييق ضدّ الفن من قبل الكيان الصهيوني، ما يفسّر التفات تجارب إلى فكرة العائلة والحشود في المكان.

بحسب تصنيف بُلّاطه فإن المنفى يشير إلى "المنطقة الخارجة عن حدود الوطن العربي"، وهنا ينطلق في التحليل من تنظيراته حول الوعي الطباقي حيث "تسكن لوعة المنفي في دهاليز وعيه المتزامن للمكانين في الوقت الواحد"، وهو ما ترك بصماته على أساليب التعبير، التي يرى أنها انزاحت بشكل موضوعي نحو التجريد للسعي إلى المزاوجة بين "الإيحاء الكلامي" والفن، خلافاً للتجارب التي نمت في البلاد العربية.

في هذا السياق، يقتفي الكتاب ذاكرة العديد من الفنانين التي ترتبط حتماً بفلسطين التي عاشوها أو تخيّلوها وأعادوا تخييلها على الدوام، ويبدو لافتاً أن نقرأ مقتطفاً مما كتبه بُلّاطه عن تجربته التي أنهى بها الكتاب إذ يقول "فلربما كان لا بدّ للفنان المنفي عن مسقط رأسه والذي وجد في اللوحة التجريدية مسكنه، أن يتشبث بالشكل المربع ويسعى لسبره، طالما استحضر هذا الشكل الهندسي ثبات الأرض في تراث أسلافه، كما كان بالنسبة إليهم رمز الجهات الأربع للمكان".

استطاع بُلّاطه في هذا الكتاب أن يخلّص المدوّنة النقدية الفلسطينية، والعربية إلى حدّ كبير، من تلك النظرة الأكاديمية المتخصّصة التي تغفل المشهد الكلّي الذي يتولّد منه الإبداع ويتبادل معه التأثر والتأثير، أو تلك الكتابات الإنشائية السطحية التي تتنشر في الصحافة العربية. لقد كانت مغامرة ذكية تفتّقت عنها تصوّرات راهنة للفضاء البصري الفلسطيني مانحة إياه أبعاده التاريخية والمعرفية والجمالية والسياسية في سرد جذاب ولغة لا تخطئ القصد والدلالة.

المساهمون