كمال بُلّاطه.. بعيداً عن سرّة الأرض

كمال بُلّاطه.. بعيداً عن سرّة الأرض

08 اغسطس 2019
كمال بُلّاطه
+ الخط -

ترك الرحيل المفاجئ للفنان التشكيلي والناقد والمؤرخ الفنّي الفلسطيني كمال بُلّاطه صباح أول أمس الثلاثاء غمامة من الحزن على محبّيه وأصدقائه في فلسطين والعالم العربي، كما عكستها وسائل التواصل الاجتماعي، وهو حزن ترددت أصداؤه لدى مثقفين كثر في العالم عرفوا بُلّاطه خلال حياته الطويلة في الغرب، حيث عُرضت أعماله على نطاق واسع وحظيت بتقدير كبير، كما أن صاحبها نشر القسم الأكبر من أبحاثه وكتبه باللغة الإنكليزية (وبدرجة أقل بالفرنسية) إلى جانب التي وضعها بلغته العربية.

بُلّاطه الذي يعتبر من أبرز الفنانين التشكيليين العرب إلى جانب أهميته كدارس وناقد للفن الفلسطيني والفن الإسلامي، رحل بعد حياة حافلة بالإنجاز الفني والتأليفي والالتزام السياسي، وحافلة بالمنفى أيضاً، فالفنان الذي عاش مبعداً عن بلده أكثر من نصف قرن؛ يبدو أن أمنيته بأن يدفن في القدس لن تتحقق هذه الأيام، إذ تقول عائلته لـ"العربي الجديد" إنها، ولكون سلطات الاحتلال ما زالت ترفض إدخال جثمانه، لم يبق أمامها سوى تشييعه في برلين، ومن المرجّح أن تقام الجنازة يوم 15 أغسطس/ آب الجاري بعد إجراء المراسم في الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية في العاصمة الألمانية.

عندما جرى احتلال القسم الثاني من مدينته القدس عام 1967 كان الفنان في زيارة لبيروت لإقامة معرض هناك بدعوة من الشاعر يوسف الخال الذي كان صاحب دار عرض فني، ولم يُسمح له بالعودة إليها مثل الآلاف من أهلها. ولم يرجع الفنان إلى القدس سوى كـ "زائر" بجواز سفر أجنبي عام 1984 حيث صوّر المخرج الدنماركي رودولف فان دِن بيرغ فيلماً وثائقياً بعنوان "غريب في بيته" عن عودة الفنان الناقصة إلى مدينته المحتلة.

الشاعر عبد اللطيف اللعبي، الذي جمعته صداقة طويلة مع الفنان المقدسي، يقول لـ "العربي الجديد": "كان كمال يُجسّد القدس. القدس كانت حيّة فيه، ماثلة دوماً في صوته وحركاته ونظراته وتنفُّسِه ونبرة ضحكاته. لم تغادره أبداً. أينما ارتحل، كان يراها في المنام واليقظة. كان يرسمها بأشكال وألوان غير معهودة في تاريخها وفنونها، كأنه المالك الأوحد لكلمة سرها". ويضيف اللعبي: "كان وفياً لأنبل القيم الإنسانية ومخلصاً إلى أقصى الحدود في انتماءاته والتزاماته وصداقاته".

من جهتها أصدرت "منظمة التحرير الفلسطينية" بياناً، نشرته عضو اللجنة التنفيذية السياسية والأكاديمية حنان عشراوي، ومما جاء فيه: "تلقينا ببالغ الحزن والأسى وعميق التأثر وفاة أحد أبرز أعمدة الفكر والفن والإبداع الفلسطيني، ورمز من رموز الحركة الثقافية والوطنية والإنسانية، القامة الفنية والأدبية الكبيرة الفنان كمال بلاطه صاحب الإرث والتاريخ الفني والفكري والأدبي الإبداعي الذي رسخ من خلاله أصالة الهوية الوطنية الفلسطينية ونهض بها نحو تطوير إبداعي، واستشرف المستقبل وارتقى بالحركة الثقافية الفنية والفكرية والنقدية".

وُلد كمال بُلّاطه في القدس عام 1942 وتعلّم الرسم في مرسم الفنان الأيقوني المقدسي خليل حلبي في حي "باب الخليل" داخل أسوار القدس القديمة. ثم درس الفن في "أكاديمية الفنون الجميلة" في روما (1960– 1965).

عاش في الولايات المتحدة وشارك في مبادرات ثقافية عديدة، قبل أن يترك واشنطن ويتوجه إلى المغرب في التسعينيات حيث عاش لبضع سنوات هناك، أجرى خلالها مجموعة من الدراسات عن الفن الإسلامي والأندلسي. ثم انتقل بعدها إلى بلدة مونتون في جنوب فرنسا، والتي تركها قبل سنوات قليلة في تغريبة جديدة ومنفى جديدة إلى برلين التي وصلها على مشارف السبعين من عمره. وكانت المحطة الأخيرة في المنفى قبل انطلاق روحه إلى القدس.

إلى جانب منجزه الفني شديد الفرادة، لبُلّاطه أعمال نقدية جمعت بين التأريخ الفني والفكر البصري، لعل من أبرزها عمليه الأساسيين: "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" (2000) والذي مثّل نقلة في النظر إلى الفن الفلسطيني وتاريخه، وكتابه الآخر "الفن الفلسطيني - من 1850 إلى اليوم" الذي صدر بالإنكليزية عام 2009. وهي أعمال أصبحت مرجعاً في دراسة الفن الفلسطيني، ما جعل الباحث والأستاذ بجامعة كولومبيا جوزيف مسعد يصفها بأنها أصبحت "مقياساً لكل ما كُتب عن الفلسطيني بعدها".

المساهمون