زكي مبارك.. تصحيح مغالطات تاريخية

زكي مبارك.. تصحيح مغالطات تاريخية

10 اغسطس 2020
(زكي مبارك في بورتريه لـ أنس عوض، العربي الجديد)
+ الخط -

كان جنود الاحتلال البريطاني يفتّشون عن زكي مبارك لاعتقاله، في محاولة منهم للتخلّص من أحد أبرز خطباء ثورة 1919، الذي أدرك حينها أن إثارة حماسة الجموع مهمّة يخفق بها معظم السياسيين، خلافاً للمثقف الذي طُبع على فنون الجدل والمناظرة والحوار، مؤسّساً خطاباً أنشأ حضارات ودولاً طوال التاريخ الإسلامي.

حاز الشاعر والأكاديمي المصري (1892 – 1950) رؤية معمّقة للأدب العربي القديم، بدت متناقضة مع وسط ثقافي اتكأ على عدّة دارسيه الغربيين ومناهجهم دون أن يمتلك جرأة الاختلاف مع خلاصاتها، كما فعل في أطروحته "النثر الفني في القرن الرابع" التي استحق عليها درجة الدكتوراه في ثلاثينيات القرن الماضي، وصدرت طبعتها الأولى عام 1944.

لم يحتمل كثيرون، وفي صدارتهم طه حسين وأحمد أمين، تلك النبرة التي يتحدّث فيها مبارك عن نفسه في الكتاب، فلجأوا إلى التقليل من قيمة عمله أو التركيز على أمور تخصّ شخصيته أو أسلوبه، ساعين إلى حجب بحث أصيل يشير إلى معرفة مكثّفة وغزيرة وقراءة نقدية منتجة، وتفنّد العديد من المغالطات والأفكار الخاطئة لدينا عن تراثنا الأدبي.

يعتبر المؤلّف القرآنَ الأثر النثري الأول في العصر الجاهلي

ربما أثارت مقدمة العمل حساسية كتّاب عصره لإفراط صاحب "التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق" في تعظيم جهده في قوله: "ولن يستطيع أي مؤلف آخر - مهما اعتزّ بقوته، وتعامى عن جهود من سبقوه - أن ينسى أني رفعت من طريقه ألوفاً من العقبات والأشواك"، ولكن تلك العبارة وغيرها لا تنفصل عن انتماء المؤلّف وتمسّكه بأدبيات عربية قديمة، جسّدها كثيرون، مثل الجاحظ الذي مدح نفسه في رسائله، أو التوحيدي الذي كان يبرّر لشكواه وتذمّره واستعطافه المهين على أبواب الولاة والمسؤولين.

في المقدّمة نفسها، نقع على مقولة أساسية توضّح أسباب اعتزاز مبارك الشديد بنفسه، في سياق ما قدّمه من دلائل وشواهد تنفي ما تواتره الباحثون، شرقاً وغرباً، من قبله عن تأثّر العرب باليونان والفرس الذي أدّى إلى ظهور النثر عندهم وتطوّر صنعته، في ما يعيده الكاتب إلى جذوره العربية الصميمة بالرجوع إلى نماذج عديدة تثبت آراءه.

الصورة
غلاف الكتاب

لا يغفل مبارك الأخطاء أو "المؤاخذات" - كما يسمّيها - على كتابه، ومنها نزعته الوجدانية التي لم يستطع إخفاءها وعزاها لويس ماسينيون إلى كون مبارك شاعراً، وعدم عرضه لشواهد كثيرة، مكتفياً بذكرها في الهوامش، معلّلاً ذلك بأن حجم الكتاب (728 صفحة) كان سيزيد أربعة أضعاف لو فعل، وتفاوت منهج العرض والتأليف بين فصل وآخر، نظراً لاستغراقه سبعة أعوام كاملةً حتى أنهى أطروحته.

أبرز المرافعات التي يقدّمها صاحب "الموازنة بين الشعراء" حول القرآن، باعتباره الأثر النثري الأول في العصر الجاهلي، لأنه "جاء بلغته وتصوّراته وتقاليده وتعابيره"، وفق آياته التي تؤكّد أن الرسول لا يرسل "إلا بلسان قومه ليبيّن لهم"، وليس كما يقول المستشرقون بأن النثر عند العرب يبدأ بابن المقفع، ويردد من خلفهم الأكاديميون العرب.

كان العرب على دراية بعلوم اللغة وأصول النحو قبل الإسلام

يرفض مبارك التقسيم الذي رُكن إليه في الثقافة العربية، بأن الكلام ثلاثة: شعر ونثر وقرآن، لافتاً إلى أن النثر لغة العقل التي تنطبق على الذكر الحكيم الذي خاطب معضلات العرب العقلية والاجتماعية والروحانية، وأنه لا يمكن التسليم باشتقاق اللغويين مفردة "القرآن" من اللغة السريانية بمعنى الجهر، أي الجهر بتلاوته، وهو ينافي معظم آياته التي تتطلّب التفكّر والتأمل، وليس قراءتها من باب الابتهال.

يناظر المؤلّف أيضاً ما توافق عليه مؤرّخو العربية وآدابها بالشكّ في كثير من النصوص الأدبية قبل الإسلام من خطب وأسجاع وأمثال، مستشهداً بقول خليل مطران إن "مجموعة الأدب التي أُثِرت عن الجاهليين لم تكن تزيد على كرّاس، وإنها على ضآلتها كانت مغنية في تثقيف الأدباء لذلك العهد"، ورأي المستشرق وليم مرسيه، أن العرب عاشوا في الجاهلية حياة بدائية وأخذها عنه كتّاب عرب كثيرون، منهم طه حسين، بذريعة أن آثارهم لم تدوّن في مؤلّفات، ويردّ عليها بأن ما ورد من روايات عن خطب ومحاورات وأمثال منسوبة إلى العرب القدامى تمنح صورة عنه، مثل اتباعه سجع الكهّان، وأنه تجاور مع الشعر في مداولاتهم، وإن كان جزء منه قد وُضع في مرحلة متأخرة بعد القرن الثاني الهجري لاستخدامها مفردات ذلك العصر.

لكن الأهمّ من ذلك، مقاربة مبارك للمفاضلة بين الشعر والنثر عند العرب التي توضّح تعليقاته على روايات نقّادهم، وتقدم فهماً دقيقاً وغير مسبوق لطبيعة تعاملهم مع فنونهما بحسب السياقات الاجتماعية التي حدّدت أفضلية القصيدة على الكلام المنثور، أو العكس. وبينما انشغل الأوّلون في المقارنة بين الشعر والنثر، مسجّلين انحيازات بين فريقين لواحد منهما، إلا أن الانحياز يكون أحياناً كثيرة مشروطاً بالمقام والحدث الذي يقدّم أحدهما على الآخر، وزاوية النظر إلى جودة النص ومستواها أيضاً.

فن المقامات وُلد عربياً على يد ابن دريد ولم يُنقل عن الفرس

يورد المؤلّف مثلاً كيف فضّل العرب الشعر لسهولة حفظه والاستشهاد به في شؤون الحياة العامة، إلّا أن ذلك لم يحل دون تقييم قاسٍ للشعراء الذين تنقسم أغراض الشعر عندهم بين الغزل والمديح عادة، أي بين ذلّ الهوى وذلّ السؤال، لافتاً أيضاً إلى مسألة مهمة تتمثّل في أن أغلب الناثرين كانوا ينظمون الشعر، ومعظم الشعراء يكتبون النثر، وأن قلّة منهم برعت في الاثنين، مثل ابن العميد وبديع الزمان الهمذاني والجرجاني.

لم يعرف العرب النثر وينظموه قبل الإسلام فحسب، بل كانوا على دراية بعلوم اللغة العربية، خلافاً لما يعتقده كثيرون، أن ذلك أتى في عصور لاحقة، بحسب مبارك، مورداً ما قاله اللغوي ابن فارس الرازي إن "معرفة القدماء من الصحابة بكتابة المصحف على النحو الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمزة والمد والقصر، تدل على فهمهم لأصول اللغة وقواعد الكتاب".

ويمرّ صاحب "الأسمار والأحاديث" على المظاهر الفنية للنثر في القرن الرابع، مبيّناً باستعراض شواهد عديدة على لجوء العرب إلى الإطناب تارة وإلى الإيجاز تارة أخرى، بما تفرضه أحوال الخطاب، ولم يكن الأمر مرسلاً على عواهنه كما يظنّ البعض ممن يحاكم نصوص التراث، كما نقلوا إلى النثر محاسن الشعر من الاستعارة والتشبيه والخيال، حتى أصبح أقدر منه على نقل الحالات النفسية وطرح الأفكار ونقدها.

ينفي الكتاب الاعتقاد بحياة بدائية عاشها العرب قبل الإسلام

انشغال الكتّاب في خصومات السياسة والمذاهب يقدّم صورة واضحة عن الحياة الفكرية واعتمادها الجدل والسجال، واستحواذ الصراع بين العرب والفرس مساحة كبيرة من النقاش الذي بُذلت فيه الحجج التي استندت إلى المنطق والفلسفة ووقائع التاريخ ومحاولات في تحليل نفسية كلا الطرفين ونخبهما الثقافية، وفق الكتاب.

من جهة أخرى، يصحّح مبارك مغالطة لا يزال تأثيرها قائماً إلى اليوم، ومفادها أن بديع الزمان الهمذاني أوّل من أنشأ فن المقامات، ومردّ ذلك انتماؤه إلى الثقافة الفارسية لكونها تمتلك سرداً متطوّراً، كاشفاً أن مقاماته هي محاكاة للأربعين حديثاً التي دوّنها ابن دريد في كتابه "زهر الآداب"، ما يعيد الاعتبار إلى أحد الكتّاب في التراث العربي الذي لا يزال غير معروف لكثير من دارسيه، كما أقرّ وليام مرسيه عندما واجهه مبارك بهذا الكشف.

يذهب الكتاب إلى تحليل نماذج من كتابات ناثري ذلك العصر في أربعة أبواب: كتّاب الأخبار والأقاصيص، ومنهم التوحيدي وابن الأنباري، وكتّاب النقد الأدبي من أمثال أبو بكر الباقلاني وأبو القاسم الآمدي، وكتّاب الآراء والمذاهب على غرار أبو حيان التوحيدي وابن مسكويه، وكتّاب الرسائل والعهود، ومن بينهم الصاحب بن عباد وأبو بكر الخوارزمي. يمتاز مبارك بقدرته على الربط بين عوامل النشأة والحياة الشخصية، وثقافة كلّ واحد منهم، وأسلوبه في الكتابة، وفهمه العميق لمساهمة كل كاتب في تطوّر النثر العربي ومكانته عبر المقارنة بمعاصريهم، وهو يصوغ تعليقاته وملاحظاته التي تعبّر عن قربه الشديد منهم، بما يجعلهم أحياءً حتى اليوم، وليسوا شخصيات منسيّة في الماضي البعيد.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون