كلّما مررتُ من هنا فكّرتُ في الأمل

كلّما مررتُ من هنا فكّرتُ في الأمل

11 ابريل 2020
(مانغاليش دبرال)
+ الخط -

اليدُ الأخرى

لم يعد لديّ في نهاية الأمر سوى يدٍ واحدة،
وما يفعلُ المرءُ بيدٍ واحدة؟
فلا فائدةَ من اليد الأخرى
التي أنسى وجودها دائماً

إنها اليد التي أطبخُ بها،
وأكتبُ رسالةَ شكرٍ،
وأتعلّقُ بالحافلة،
اليدُ التي تتأرجَحُ بقوّةٍ أثناء المشي
فتبقى نشيطةً وجريئة

بينما اليدُ الأخرى
تجثمُ مثل أرنبٍ في الأدغال،
أو تستلقي في طفولتي،
بين الكرةِ والحصانِ الهزّاز،
وفي مراهقتي أخذَتها يدُ صبيّةٍ ما.
غير أن اليد المتأرجحة لن تلمس اليدَ الأُخرى أبداً

تطرقُ يدي على أبوابِ المدنِ والمكاتبِ والمنازلِ
أفعل بها ما أريد،
يدي لا تتعبُ أبداً
وإذا زادَ حِمْلُها
تداعَتْ لها أختُها بالألم والرّجفة.


■ ■ ■


طفل

يتذكّرُ كلَّ عامٍ بدقّة
عددَ الألعابِ التي كَسَرَها
وكم مرّةً بكى وحيداً
وكم مرّةً سقطَ على الحجارة
وركضَ مسرعاً صوبَ المنزل.
يتذكّرُ أحلامه واحداً واحداً،
أطفالَ مناماته،
طعمَ الأشياء على لسانه
واليوم بعد أن فاجأه البلوغ،
يضحكُ
لأنه نَسِيَ كم مرّةً
كان حلمُهُ أرضاً مشتعلةً
يسمعُ فيها أحياناً
بُكاءَ أهلِه...


■ ■ ■


الأماكن المتبقية

أنسى الأشياء هذه الأيام وأفقدُها،
أضعتُ نظاراتي وقلمي،
لمحتُ طيفاً أزرقَ منذ ثانية في مكان ما،
وأضعتُه الآن.
نسيتُ الردَّ على رسائلي وسدادَ ديوني
نسيتُ السلام على الأصدقاء ووداعهم.
أنشغلُ، فلا أتذكّرُ أحياناً بعد نسيان شيء ما،
أنني نسيتُه.

لطالما دلّتني أُمي أينَ خلعتُ ثيابي
أين تركتُ أشيائي أو أخفيتُها.
ولطالما وجدتها وغمرتني السعادة.
تقول أُمي إن الأشياء تحتلّ حيّزها الخاص ولا تتركه بسهولة.
وها قد رحلتْ أُمي اليوم
وبَقيَ مكانُها.

تضيعُ الأشياء وتبقى أماكنها
تتحرّكُ معنا طيلة حياتنا،
ننتقلُ إلى مكانٍ آخرَ
تاركين منازلنا وأهلنا وماءنا وأشجارنا،
نهوي من أعالي الجبال مثل الأحجار،
ويبقى مكان الأحجار في الجبل هناك
فارغاً.

غمرَ السّدُّ الضخم مدينتي، وأنشأوا مدينة أخرى مكانها،
ولكنني اكتشفتُ الخدعة،
وعرفت أنه لم يبق من مدينتي اليوم
سوى هذا الفراغ.

تأتي الأشياء وتذهبُ،
فأجمعُ أماكنَها وأحملُها معي
لتذكّرَني بالفَقْدِ والنّسيان.


■ ■ ■


قصة شاعرين

شاعرُ الحُبِّ العظيمِ محرومٌ من الحُبّ،
أمامه الحليبُ والخبزُ والأدوية،
تلك الأشياء التي لم يستطع فهمها أبداً.
كالحِبرِ في أعماقه
يذوبُ عالمٌ مليءٌ بالمرايا
باحثاً عن لمسةٍ أو يدٍ تُلوِّح،
ولن تهدّئ آلامَه
كلّ اللغات
وكلّ هديلِ الحمام،
ليس سوى أن تغسله شلالات الماء
على جبال العطش.

شاعرُ العذابِ معذّبٌ
يغمرهُ الألم الرهيب والكوابيس المخيفة
لا صديقَ غيرَه لشاعرِ الحُبّ.
عاش كالغابة يُحَطِّبُ كلماته،
لا شيء لديه سوى مفترق الطرق التي يهربُ منها،
يتتبّع في الليل آثار الذين أفسدوا الحُبَّ
ولم يربّوا سوى الخسران،
واليوم يخرجون حتى في وضح النهار.

غادرَ شاعرُ العذابِ العالمَ مبكّراً
ظنَّ شاعرُ الحُبِّ أن حياته لا بد أن تطول
فالحُبُّ إكسيرُ العذاب الأوحدُ
والانتقامُ الوحيد من الظلم
ليحْتَمِل بمفرده كل هذا الألم.


■ ■ ■


عبور

كلّما مَرَرْتُ من هنا
فكّرتُ في الجوعِ الذي يتلوّى أمامنا ثلاث مراتٍ في اليوم
طالباً رغيفَ خُبز.
يتلاشى الحلمُ
فلا يتبقى في يديّ إلا الفراغ.
كلّما أطلّ الحلمُ برأسِه
همسَ في أذني وخدشَ وجهي متعطّشاً للدّماء،
دماءِ الرغبةِ المكتومة.

كلّما مَرَرْتُ من هنا
تأمّلتُ في المَلَلِ
يقطرُ من وجوهنا
مُشكّلاً بِرْكَةً على طاولتنا،
وشاهدتُ رجلاً يعبر بقربي
ثم يتلاشى في الظلام،
أو امرأة أحياناً
تنطلقُ محاولةً جهدها إخفاءَ مخاوفها.

كلّما مَرَرْتُ من هنا
فكّرتُ في الأمل،
وأنّه لا يزال علينا
شنُّ الحروبِ
وإصدارُ الأحكام،
وهناك في البعيد
لا بد أن تهبّ الرياح على الحقل المفتوح
يقطعُه الأطفالُ راكضينَ مُصفّقين،
ولا بد للأجراسِ أن تُقرعَ معلنةً:
"الجميع في المنزل أخيراً
سالمين غانمين"

كلّما مَرَرْتُ من هنا
فكّرتُ في المدينةِ
التي تنزعُ قناعَها
عائدةً من جولاتِ الرُّعبِ
وغروبِ الشَّمسِ الأليف،
وقلتُ لأصدقائي
الذينَ يُجافيِهم النوم:
كلُّ شيءٍ زائلٌ
حتى الأحلام
رغم الطريق والحافلة.
كلما مررتُ من هنا
فكّرتُ في العالم الخائفِ
الذي تَكَوّرَ على نفسه مثل عقولنا.
يسودُ السكونُ
وتتنفّسُهُ الموجوداتِ المستلقيةِ عاريةً أمامنا،
كل هذه الكتب والسموات والأحياء المزدحمة،
نكتبُ القصائدَ
ونقذفُها هناك في الظلامِ الدّامسِ
بعيداً عن الأحياءِ والأمواتِ
وعن كلماتنا وصرخاتنا.


■ ■ ■


الدوّامة

نقول مجازاً:
لقد جرى اليوم.
نقول:
الصباحُ باب أرواحنا نقرعُه.

انهضْ لتحظى بحِصَّتِكَ من البُؤسِ اليوميّ

الدّخانُ والدّمُ والصّرخاتُ تلقي بظلالِها على أفكارنا
كيلا نتمادى في الطموح

نمشي في الشوارع
باحثينَ عن القصائدِ والحكايات،
نتحادث بيدين مطويتين لأننا نؤمن بجدوى الحديث
نذرعُ الغرفةَ بخفّةٍ
ونشتمُ الصُّحفَ
مندَهِشينَ من عناوينها المروّعة.

لم نصدّق يوماً انحدار الإنسانية إلى هذه الهاوية السحيقة،
ولم نتخيّل أن الطاغية قد يجرؤ على التشبّه بالبشر،
لم نعتقد أننا سنصل يوماً إلى مثل هذا الكمّ من الجريمة والجنون،
ونحن نراقبُ البشرَ ينزلقونَ إلى قعرِ العالمِ السّفليّ.
جلبنا معنا الحياة النقيّة
التي لا تعدو أكثر من حفنة من الملح
ولكن رؤوسنا لا تزال سليمة رغم الدوار
كي نفكّرَ، ونحن نعبر باب أرواحنا
في قيمة التعاطف
في عَظَمته ونُبلِه.


■ ■ ■


قبل الذهاب إلى النوم

قبل النوم
أجلبُ صُحُفَ الصباح
وأتخلّصُ من العناوين
لا أُحبّ تذكُّرَ تواريخ القتل والاستبداد
لا أريد معرفةَ كمِّ المجازرِ التي تصنّعُ الأممْ

أُقلّبُ الصورَ
فأرى جسراً ينهارُ ليتصاعَدَ الرّثاءُ والعَويل،
وجهاً يتوسّل شريانَ الحياة
رجلاً يجلسُ على كرسيّهِ
ويضحك بجنون

طيلةَ الليل،
يُحدّقُ الطاغيةُ في وجهي،
أرى النازحين هائمين على وجوههم صوب الأراضي القاحلة المجهولة،
تخنقني حرارة الأرض،
يقرع السوق رأسي بلا هوادة،
أغلقُ كتبي قبل النوم
يَغرَقُ سكّانُ ناطحاتِ السحابِ المشجّرةِ في حزنهم الأبيض والأسود
ويصيرُ الحُبّ عُشّاً خَرِباً.

قبل النوم،
أتخلّصُ من الصّورِ المخيفةِ
أُغلقُ النوافذَ
أُطفئُ سيجارتي في حذائي الذي وضعتُه تحتَ السرير.
قبلَ النوم،
أشربُ كوباً من الماء
وأحتفي بوجوده.
آخذُ نفساً عميقاً
وأُخاطبُ الهواء:
ابقَ هنا، بين رئتي وهذه الجدران.
أقول قبلَ النوم: امنحني أيها النوم
حلماً جميلاً على الأقل.


** Manglesh Dabral أحد أبرز شعراء الهند اليوم، من مواليد عام 1948، في قرية بمنطقة الهيمالايا في الهند. يكتب باللغة الهندية وله - إلى جانب مجموعاته الشعرية العديدة - كتبٌ في النقد الأدبي والثقافي. عمل محرّراً أدبياً في العديد من المجلات والصحف الهندية. القصائد المترجمة هنا هي من مجموعته "هذا الرقم لا وجود له" وهي قصائد مختارة مترجمة إلى الإنكليزية صدرت عام 2016.

** ترجمة عماد الأحمد

المساهمون