قيامة البتول الأخيرة.. قراءة سردية لغوية (1)

قيامة البتول الأخيرة.. قراءة سردية لغوية (1)

25 يوليو 2019
+ الخط -
نهاية العام الماضي، صدرت رواية "قيامة البتول الأخيرة"، الرواية الرابعة للأديب السوري زياد كمال حمامي، سبق أن قدَّم عمله الروائي الأول "الظهور الأخير للجد العظيم" سنة 1995، وبعد سبع عشرة سنة ظهرت روايته "نعش واحد وملايين الأموات"، وفي 2015 نشر رواية "الخاتم الأعظم".

في قيامة البتول الأخيرة، نعيش أجواء الهزيمة النفسية والفساد وهزيمة المثقفين، وتغلغل المحسوبية وإقصاء الآخر، وما يقاسيه رجل الشارع البسيط تحت وطأة الحرب. ثمة تقارب بين أفضية وشخصيات الروايتين الأولى "الظهور الأخير" والحديثة "قيامة البتول"، وسنعرض لذلك التشابه عند تناول الأفضية والشخصيات في الرواية الجديدة. 

تبدأ الرواية من الكهف/القبو بما يحمله من دلالات، ويحاول بطل الرواية، عبد السلام مصطفى، المثَّال (النحات) -الموهوب قليل الحظ- أن ينحت تمثال الحرية. يحلم عبد السلام بانتهاء الحرب، وانقشاع هذا الكابوس بعدما سيطر على حياة أهل الحارة، ويجلده الندم لاغتصاب جارته البتول، ولم يقو على دفع الضيم عنها بحال.

يعيش عبد السلام في حارة البندرة (حارة اليهود القديمة)، وتحتوي الحارة أناسًا كثرًا، على اختلاف معتقداتهم وتوجهاتهم الفكرية؛ فهذا الخياط الأرمني "آكوب" وزوجته مايدا وابنتهما إيلين، وأبراهام فارحي اليهودي حارس معبد الصفراء، وزوجته رزو وابنته الحسناء ليزا، وأبو العباس المسلم الشيعي وأسرته، لم يعرفوا التفرقة ولا الطائفية إلا من جريرة السياسة والحرب، بل إن أهالي الحارة كانوا ينادون أبراهام بـ"العم إبراهيم".

وتمضي الأحداث وتتعقد بما يتوافق مع تعقد المشهد السوري، وتتناوش الحرب أوصال الحارة، وتتباين ردود أفعال الشخصيات بما يعكس البعد النفسي، وتتكشف حقائق لم يسبق أن وقف عليها البطل، ويدرك أن خطأ واحدًا قد يجبر المرء على الانحناء طويلًا، وربما للأبد!

في القراءة السردية واللغوية، سنقف -أولًا- مع البنية السردية، ثم نتبعها بالقراءة اللغوية، وليسمح لي القارئ الكريم أن أتجاوز عالم التنظير، وأن أقفز على التعريفات النظرية، وأن أشير على عجالة لبعض المصطلحات الواردة -دون تعمُّق- فإن شاء أن يتعرف التفاصيل السردية والروائية؛ فلا بأس أن أحيله لقائمة من المؤلفات ذات الصلة، منها كتاب مفاهيم سردية لتزفيتان تودوروف، وكتاب خطاب الحكاية لجيرار جينيت، وكتاب لذة النص لرولان بارت، وقائمة من المؤلفات العربية منها كتاب "في نظرية الرواية" للدكتور عبد المالك مرتاض. 

تتألف البنية السردية للرواية من ثلاث مكونات؛ الزمن والأمكنة والشخصيات، ويلعب التداخل الزمني والمكاني وتأثيرًا بليغًا على الأشخاص، ما يؤثر في تتابع الأحداث وتميُّز العمل الروائي.

أولًا: الزمن

نبدأ الحديث من الزمن، يختلف النقاد في تعيينه، وثمة فرق بين زمن القصة (الخطاب) وزمن الحكاية (السرد)؛ فزمن القصة يقاس بالثواني والساعات، بينما زمن السرد يقاس بالأسطر والصفحات. 

وينقسم الزمن الروائي إلى ثلاثة عناصر؛ مستوى الترتيب الزمني، والمدة أو الديمومة، ومستوى التواتر والتكرار، وقد وظف الروائي المكوِّن الزمني بما خدم الرواية وأضفى عليها تنوعًا وتناغمًا. 

  1. مستوى الترتيب الزمني

يقصد به المفارقات الزمنية أو التنافر الزمني؛ لكسر خطية الزمن، وعودة الراوي إلى ما قبل أحداث الرواية من ناحية (الاسترجاع)، ومن ناحية أخرى يستشرف الروائي مستقبل الشخصيات (الاستباق). يتفق الاسترجاع والاستباق في انقسامهما إلى (تام، جزئي، مختلط، خارجي، داخلي)، وينقسم الاسترجاع/الاستباق الداخلي إلى نوعين؛ غير منتمٍ للحكاية، ومنتمٍ للحكاية ينقسم بدروه إلى (تكميلي أو مكرر).

الاسترجاع:

بنية أساسية من البناء الروائي، يمثل الطريقة التقليدية في عالم الرواية، يملأ فجوات السرد بإعطاء معلومات عن سوابق الشخصيات، ويطلع القارئ على مسرح الأحداث، ويعطي فرصة لإلقاء الضوء على بعض الجوانب المعتمة في القصة. ونظرًا لتعدد التراجم للمصطلح الأصلي؛ فإننا نجد مسميات كثيرة في أدبيات النقد العربي للاسترجاع، منها الإرجاع أو الاستذكار أو الإلحاق أو اللحوق وهذا ما يعادل التقنية السينمائية (الفلاش باك).

يقسِّم جيرار جينيت الاسترجاع إلى خارجي وداخلي؛ فالاسترجاع الخارجي استعادة أحداث ما قبل بداية الحكي، أي إلى ما قبل بداية القصة التي تؤطرها الرواية؛ لأنه خارج الإطار الزمني للرواية.

من أمثلة الاسترجاع الخارجي، عودة عبد السلام بذاكرته وتذكر مشهد حادث اغتصاب البتول قبل أسبوع، ، ومن ذلك: ".. ينخطف خلفًا، إلى مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي، يتذكر بألم شديد ليلة سقوط البتول المريع"، وعودة أبي الرمز الفلسطيني لأحداث فائتة، منها "يتذكر فورًا طفولته، ومأساة عائلته أثناء حرب 1948 حين هرب والده من القدس الشرقية إلى أطراف أريحا".

كذلك استرجاع عبد السلام علاقته بالسائحة الكندية، سوزانا، نوع من الاسترجاع الخارجي.

أما الاسترجاع الداخلي؛ فيعود الروائي إلى ماضٍ لاحقٍ لبداية الرواية قد تأخر تقديمه في النص، ويتشعب -وفق جيرار جينيت- إلى قسمين؛ الأول غير منتمٍ للحكاية (براني المحكي)، وفيه يأتي الروائي بقصة لا علاقة لها بالحكاية الرئيسة، والثاني منتمٍ للحكاية (جواني المحكي) عندما يأتي بقصة لها علاقة بالحكاية الرئيسة. 

لكل استرجاع مدى واتساع؛ فالمدى النقطة التي توقف عندها السرد ثم عاد إليها، ويقاس بالأيام والشهور والسنوات، أما الاتساع فيقاس بالأسطر والفقرات والصفحات التي يغطيها الاسترجاع في زمن السرد. 

الاستباق:

نقيض الاسترجاع في الزمن الروائي، ويشكلان معًا المفارقات الزمنية في الرواية، ويعبر عن رؤية الشخصيات للمستقبل، والملامح النفسية لشخصيات الرواية وهي تحلم وتفكر وتتخيل.

يرى جيرار جينيت أن الاستباق أقل تواترًا في العمل الروائي من الاسترجاع، ويقسِّم الاستباق إلى نوعين؛ استباق داخلي/تمهيدي يمهد لشيءٍ ما سيقع في أحداث الرواية، ويفيد التطلُّع إلى ما هو متوقع أو محتمل الحدوث. من أمثلته قول أبراهام فارحي لعبد السلام "لن يشك بك أيٌّ من الأهالي؛ فأنت بالنسبة إليهم مثل ابن الداية، محبوب ومدلَّل"، وقوله لابنته ليزا "قريبًا جدًا ستعرفين أن جارنا السابق عبد السلام لا يستحق حب عاشقة صادقة مغدورة". 

أما الاستباق الخارجي/الإعلاني فيراد به توقع أشياء ربما تتحقق أو لا، ويخلق مناخًا من الترقب والتشويق لدى القارئ، ومن أمثلته في الرواية قول رئيس جماعة أخوة الحليب "قررت الرئاسة المبجلة أن يسقط الشرق أخيرًا، تمامًا مثلما سقطت إمبراطوريات عظمى سابقًا، سوف تدمَّر المدينة وكذلك البلد، وستحترق المنطقة وتصبح رمادًا وركامًا، دمارًا وخرابًا، مثلما كانت إرم ذات العماد، وسيفنى شعبها ويتشتت في البلاد". نصيب الاسترجاع (الخارجي) من المفارقات الزمنية أكثر من الاستباق، وكان نصيب الاستباق الإعلاني أكبر من التمهيدي.

استخدم الراوي حروف الاستقبال (السين/ سوف/ لن) للدلالة على الاستباق، ومن ذلك "لن يشك بك أيٌّ من الأهالي"، "قريبًا جدًا ستعرفين". 

  1. الاستغراق الزمني

بالنسبة للمدة الزمنية في الرواية، تتعدد الأسماء فيها -تبعًا لتعدد الترجمات- فيقال المدة والديمومة والمدى والاستغراق الزمني، ويراد بها عدم التطابق بين زمن القصة (الخطاب) وزمن الحكاية (السرد)؛ فبينما يقاس زمن القصة بالثواني والدقائق والأيام، يقاس زمن الحكاية بالأسطر والجمل والصفحات.

يتفرَّع الاستغراق الزمني إلى قسمين رئيسين؛ تسريع السرد (بالخلاصة أو الحذف) وتعطيل السرد وإبطاء وتيرته من (الوقفة أو المشهد).

  1. تسريع السرد:

الخلاصة 

تعرف كذلك بالثغرة أو الثغرة الزمنية، تمثل الحد الأدنى في تسريع السرد؛ لأن مداها الزمني قصير جدًا، وتعبر عن المسكوت عنه من أحداث، وما اختصره الروائي من تفاصيل، ربما وجدها لا تستحق الاهتمام، أو لتقديم أحداث أولى بالعناية. 

يلخص الروائي الأحداث إما بالخلاصة المميزة المذكورة، كأن يقول "بعد مرور مدة/ شهور/ سنة/ سنوات"، أو يعمد إلى الخلاصة الضمنية، وفيها يكثِّف النص ويبتعد عن التكرار الممل.

تمثلت الخلاصة في رواية قيامة البتول الأخيرة غير مرة، منها خلاصة ما وقع لأسرة أبي الرمز الفلسطيني وغيرها إثر اكتساح اليهود لدير ياسين، والتهجير القسري وتخريب بيوت الفلسطينيين، وخلاصة الانقسامات الطائفية في سورية، وغيرها من الخلاصات المعبرة.

الحذف

يشار إليه بالقطع أو القفزة أيضًا، يمثل الحد الأقصى في تسريع السرد، ويدل على إسقاط الأحداث غير المهمة دون الإشارة إليها، وينقسم الحذف إلى صريح وضمني وافتراضي. في الرواية لاحظنا في غير موضع، توظيف الروائي لتقنية الحذف، ودلالتها المؤثرة في السرد.

  1. تعطيل السرد:   

الوقفة 

وظيفة قديمة، ذات طبيعة تفسيرية، انتشرت في الكتابات القديمة، تشير لانقطاع السيرورة الزمنية، تنقسم إلى وصفية (الاستراحة) وتأملية. في الوقفة الوصفية، يقف الراوي عن سرد الأحداث، وينتقل إلى الوصف، ولا سرد بلا وصف، بل إن السرد في حقيقته وصفٌ لوقائع وأحداث أو بعض الأفضية. 

بدأت الرواية بالوصف، ورسمت لنا صورة عن عبد السلام، ومرسمه الصغير وأحلامه التي تهددها الحرب. بعد قليل، وقفنا على وصف الجقجوق ابن الزيزفونة الزانية، الذي أدمن النيكروفيليا، وأخذنا في رحلة لماضيه، أدركنا خلالها لماذا اختار الجقجوق هذا السبيل الشيطاني، ثم وصف لنا معاناة الثريا العمياء مع أختها هنودة "أم القطط"، ووصف لنا حال الحارة بشكل عام ومآسي الحرب، والدمار النفسي والاجتماعي.

أما الوقفة التأملية فلا ينجَّر عنها توقُّف الأحداث، ويبيِّن الروائي خلالها مشاعر شخصية ما -فيزيولوجيًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا- وانطباعاتها إزاء موقف معين، وقد يقرنها بالحوار الداخلي (المونولوج). 

يبالغ جيرار جينيت في أهمية الوصف، حتى يقول إن النص السردي لم يقم إلا على ساق الوصف، ويضع للوصف وظائف واقعية ومعرفية وسردية وجمالية وإيقاعية.

المشهد

يتألف المشهد من مقطع حواري، في الغالب يكون حوارًا ثنائيًا أو تشاركيًا لأشخاص عدة (ديالوج)، وربما يكون حوارًا داخليًا لأحد الشخصيات (مونولوج). يعطي المشهد للقارئ إحساسًا بالمشاركة المطروحة أمامه، ويعيش الأجواء بدرجة أكبر.

للحوار وظيفة درامية في السرد، ويكسر رتابة الحكي بضمير الغائب، ويساعد على كشف الأحداث بسهولة، ويسمح بالتخلص من الأسلوب الأدبي؛ فتتحدث الشخصيات بمستواها الاجتماعي دون تحرج أو تكلف.

رواية قيامة البتول الأخيرة غنية بالمشاهد الحوارية، سواء أكانت حوارات داخلية -مثل حديث عبد السلام في القبو، وأحاديث يحيى في غرفة المستشفى، وأحاديث أبو الرمز الفلسطيني مع ذاته- أم حوارات ثنائية ومنها حديث البتول مع والدها، وحديث وداد والدة عبد السلام مع أبيه مصطفى، وحوار عبد السلام مع سوزانا، وأبو جمرة في حديثه مع المشرَّط وغيرها الكثير. أما الحديث التشاركي فله حضور واسع بين رجال الحارة، وكان للنسوة حديث تشاركي في عزاء البتول.

  1. مستوى التواتر/التكرار

يقصد به التواتر السردي وطريقة الحكي التي يختارها الروائي، ويعد من أهم السمات الأساسية للزمنية السردية، وحسب جيرار جينيت ينقسم إلى التواتر الانفرادي (المحكي المفرد)، والتواتر المتشابه، والتواتر التكراري. 

في الجزء الثاني نعرض تفاصيل مستوى التواتر ثم نتطرق إلى أفضية الرواية وشخصياتها..