قمة "التعاون الإسلامي".. ماذا بعد؟

قمة "التعاون الإسلامي".. ماذا بعد؟

23 ديسمبر 2017

القادة وممثلو الدول الإسلامية في قمة اسطنبول (13/12/2017/الأناضول)

+ الخط -
نعيش، نحن المسلمين، حالة غير مسبوقة من المد والجزر، ولعل قضية القدس، في الوقت الحاضر، تعكس هذا الأمر أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ولدت العاطفة النابضة من إدراك عميق بأن وحدتنا ضرورية الآن، إذا أردنا أن نحافظ على سلامة دولنا، ومستقبل مجتمعاتنا وحيوية حضاراتنا.. لماذا؟ لأن هذا هو السطر الأخير، فقد امتلأ تاريخنا بتراجع بطيء مؤلم، عنوانه التنازلات والتجزؤ والانقسامات. وعلى حد تعبير الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن نخسر مدينة القدس فستكون هذه مجرد البداية، فمن يضمن عدم مجيء الدور على المدينة المنورة؟ فإن خسرنا القدس، ما الذي سيقف في طريق فقدان مكة المكرمة؟ كلٌّ غارقٌ في قضاياه، ونحن نفقد هويتنا وكينونتنا تدريجيًّا.
تدفق المصلون، في تركيا وفي جميع العالم، من المساجد باتجاهٍ واحد وقبلة واحدة. ورفع المسلمون في أنحاء العالم أصواتهم من أجل قضية موحدة، لقضيةٍ كانت، منذ فترة طويلة، بمثابة قوة موحدة لنا طوال تاريخنا، شكّلت وعينا كأمة، وكقلب واحد ينبض في الوقت نفسه، كلما نادتنا تلك القضية.
في تركيا وحدها، خرجت أكثر من 39 مظاهرة لتجتاح شوارع هذه المدينة القديمة، اجتمعت تحت صرخةٍ مشتركةٍ، تتجاوز الاعتقاد والسياسة والعرق. لم يكن هذا أمرًا عاديًّا بأي حال، وما زاد من الجمال والدهشة أن هذا المشهد الجميل قد تكرّر في عواصم عديدة للأمة الممتدة في العالم. امتلأت الساحات بالغرباء، لا يعرفون بعضهم بعضاً. من دون توجيه دولي، خرجوا بقلب واحد، وصوت غاضب واحد، يطالبون بحقهم في المدينة المقدسة، مساندين إخوانهم في القدس.

في ترکیا، كبرنا على حب القدس، مستلھمین هذا الحب من التفاني والشجاعة المدهشة التي نشھدھا یومیًّا من الفلسطینیین، أصحاب الكرامة، لأنھم یواجھون الوحشية المتواصلة والظلم والقسوة، من دون أيِّ تراجع، إنهم أبطالٌ من عالم مختلف، ينبثقون من ذكريات الماضي الضائع، لتذكيرنا بحياةٍ عاشوها في النضال من أجل قضية عليا. زادتنا هذه المشاهد تواضعًا وتفانيًا في سبيل تحقيق ما نصبو إليه.
وبالنسبة للأتراك، ليست القدس مسألةً تُدار في أروقة السياسة الخارجية، بل هي شأن داخلي يلامس قلب الحياة اليومية، ويتخلل ثقافتنا ووعينا، ويكمن في قلب قائمة أولوياتنا. فمهما تعددت الغايات والنهايات، تظل القدس القلب النابض في العالم الإسلامي، من خلال سلسلة مترابطة تاريخيًّا من التدافع والتضامن والتضحية، تعود للعثمانيين بالنسبة لتركيا، ولقبلهم بالنسبة لآخرين. ما تزال كلمات السلطان عبد الحميد الثاني، يتردّد صداها في الإرادة الشعبية والمشاعر الحالية في تركيا، وتعد مصدرًا للفخر الوطني، على الرغم من اختلاف المشارب والميول السياسية. عندما عرض هرتزل سداد ديون الإمبراطورية العثمانية، رد عبد الحميد بصراحة قائلًا إنه يفضل أن يقطع جسدها إربًا إربًا على أن يتنازل عن هذه الأرض المقدّسة.
في الحقيقة، ما نشهده اليوم ليس انتكاسة، لعلنا اليوم نربط مشاعر اليأس بالقضية الفلسطينية ببساطةٍ بسبب سكون القضية. فخلال فترة طويلة جدًّا، لم يحدث سوى القليل، على الرغم من التعدّي التدريجي على حرمة فلسطين. لم تختف المشاعر الشعبية التي يتقاسمها أكثر من مليار ونصف من المسلمين، على الرغم من كل ما تواجهه الأمة من مآسٍ، لكن اليأس لدينا لا أساس له من الصحة. خطاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتهور وغير القانوني، قد يؤدي إلى تغيير الوضع القانوني للمدينة، وربما يضغط على الدول الأخرى، ليتبعوه من أجل إحداث عُرفٍ دوليٍّ جديد في هذه المسألة، وقد تطيعه تلك الدول، بسبب اعتمادها على المعونات الاقتصادية والأمنية من الولايات المتحدة. بالنسبة لهم، ليس لديهم خيار سوى تبني المواقف نفسها. أما نحن، فإرادة شعوبنا ما تزال حرّة، وهذا ينبغي أن لا نهمله، وإن سلبت الإرادة السياسية لدى بعضهم.
قد يبدو من غير المجدي القيام بالقمة الإسلامية. ولكن دعونا نضع في اعتبارنا أننا نقف على استعداد للتغيير، للمرة الأولى منذ عقود، يبدأ العالم الإسلامي في إيجاد توازنه بعد موجات متتالية من الاستعمار والحروب والنزاعات؛ التي بدأت بعد تفكّك العالم الإسلامي الصادم كما نعلمه جميعًا.
في الحقيقة، لسنا وحدنا. العالم متحدٌّ في تضامنه مع القضية الفلسطينية، كما يتضح من الإشادة البارزة التي نراها في مواقف الأمم المتحدة. ولولا "الفيتو" الذي استخدمته الولايات المتحدة في مجلس الأمن باستمرار، فإن الوضع الراهن الفلسطيني سيكون مختلفًا تمامًا، فالأصوات
الواضحة للاتحاد الأوروبي، وكندا وفرنسا، على سبيل المثال، على الرغم من روابطهما الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة، دليل آخر على التحوّل في المد والجزر نحو الأفضل.
فقبل بضعة أيام، اجتمع قادة العالم الإسلامي في إسطنبول، في إطار إظهار الوحدة لمعالجة مسألة ذات أهمية فريدة، للمرة الأولى منذ فترة طويلة، ولكنْ شيئًا ما قد تغير. سمعنا أصوات العالم واسعة الانتشار التي شكّكنا فيها بعض الوقت. ذقنا حلاوة التضامن، وشهدنا الشعلة التي لم تمت، وأن حياة الشرف، وإرادة الشعوب واضحة تمامًا. هذه ليست سوى بدايةِ الطريق، إذ تترجم الإرادة السياسية إلى عملٍ ملموس. ما فُقد على مدى قرن، لا يمكن استعادته في يوم واحد، أو في حملةٍ واحدة. إننا نحتاج إلى عمل منهجي وتدريجي ومستنير، يستند إلى نقاط القوة المشتركة لدينا مع التزامٍ عملي منا جميعًا يقودنا إلى مستقبلٍ أفضل نبنيه بجهودنا. وعلينا أن نغتنمَ اليوم، ونكثفَ جهودنا الآن أكثر من أيِّ وقت مضى؛ ونسعى إلى تحقيق أكثر من هذا في هذه اللحظة الفريدة؛ إنها فرصة للوحدة لا مثيلَ لها.
2232E1FF-BA50-45BA-A22C-5A0B39CEEFC8
2232E1FF-BA50-45BA-A22C-5A0B39CEEFC8
أنس يلمان
أنس يلمان