قصص نحيلة

قصص نحيلة

26 فبراير 2015
+ الخط -
أسألكم الدعاء
من كان يتصور أن ذلك الدعاء الذي نفّست به عن كربها سيلقي بها في السجن؟ بالأمس، شاء حظها العاثر أن يسمعها جارها الضابط، وهي تصيح: "ربنا ياخدك يا بعيد.. ربنا ياخدك يا بعيد". وفي قسم الشرطة، لم يصدقها أحد، حين أقسمت أنها كانت تدعو على زوجها، وأنها لم تشاهد أبداً خطاب الرئيس الذي يقولون إنه طلب فيه من الشعب الدعاء لمصر.
****
محاولة في نقد التسوّل
وقف في منتصف عربة المترو مُزكماً الأنوف برائحته النفاذة، ولافتاً الأنظار إلى ملابسه الرثة التي لا تناسب البرودة القارسة، قال بصوت جهير، وأداء واثق لا يؤتى إلا لممثل لا يملُّ التكرار، أو لضحية لا تسأم الشكوى: "سيداتي سادتي، أبلغ من العمر 28 عاماً، مصاب بالإيدز، ورثت المرض عن أبي وأمي اللذين توفيا به، وتركاني خلفهما أصارع الحياة أكثر من 24 عاماً، لا أحد يرغب في توظيفي بسبب مرضي، ليس لدي تأمين صحي لكي أتعالج، لا أبحث عن معجزات، أبحث عن ما يكفي لوجبتين ساخنتين ومكان دافئ أنام فيه. هذا ما لدي، فماذا لديكم؟". أخذت أتأمل أداءه وهو يكرر ما قاله، محاولاً استخراج مواطن الضعف التمثيلي، فوجئت بكثيرين يمدون أيديهم لمساعدته، على غير ما توقعت، لم أدرِ، هل لأن قصته مألوفة في هذا المجتمع؟ أو لأنها ممكنة الحدوث؟ هل ركاب هذه العربة، بالذات، كرماء إلى درجة تجعلهم غير مشغولين، بالتأكد مما إذا كان المتسول صادقاً أم كذاباً؟ أم أنهم غير معنيين بذلك أصلاً؟ باعتبار أنه لو كان كاذباً، فلجوؤه لإدعاء الإصابة بالإيدز، يدل على بؤس ويأس، يستحق من أجلهما المساعدة.
****
لن تستطيع معي صبراً
فجأة، تحولت الجلسة التي كان يفترض أن تكون دردشة عن سينما الخيال العلمي، إلى ما يشبه ندوة عن كوارث الفهم الخاطئ للنصوص الدينية، مصحوبة بفاصل من الحديث عن الحتمية التاريخية التي لا ترتبط بأشخاص بعينهم. كان كل ذلك قد بدأ، حين قال لي صديقي المهووس بتيمة السفر عبر الزمن، أنه كتب قصة سينمائية خيالية، يتمنى أن تثمر في المستقبل عن حل ناجع لأبرز مشكلات مصر، وحين لم أفهم العلاقة بين قصته المستمدة من تيمة السفر عبر الزمن وبين حل مشكلات مصر، زاد الأمر غموضاً، وأخذ يحدثني عن قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام، حين فوجئ به موسى يقتل غلاماً، ولما غضب موسى من فعلته، قال له الخضر أنه بقتل الغلام يدرأ ضرراً كبيراً عن أبويه وأهله المؤمنين، يهون إلى جواره ضرر قتل الغلام، ولم أفهم سر تلك المقدمة الطويلة التي تدخلت مراراً لإجباره على اختصارها، إلا حين سمعت قصة الفيلم التي تتمحور حول عالم مهموم بأحوال مصر، قرر بعد طول تأمل اختراع آلة للسفر عبر الزمن، ليقوم بقتل طفلين، الأول اسمه حسن البنا، والثاني اسمه جمال عبد الناصر.
****
مصائب قوم
لأنني لم أكن أعرفها، ولأنني لم أكن قادراً على امتلاك جرأة تقديم نفسي لها، ولأنني لا أؤمن أصلاً بأن "الناس لبعضيها"، ولأنها إن جئت للحق لم تكن مغرية شكلياً، ولا جسدياً، بشكل يدفعني لمخاطرة "موضع الحرج" إن تقدمت لمواساتها. لذلك، قررت بانتهازية بحتة، أو قل إن شئت بواقعية بحتة، أن أتخذ من حزنها مدعاة لتمضية وقت سخيف، لم يكن سيمضي سريعاً في العادة، وحين جاء موعدي وغادرت الكوفي شوب، تراجعت عن الذهاب إليها لكي أشكرها قبل أن أنصرف، فهي لم تكن ستتفهم امتناني لها، فالساعة التي أمضيتها على ضوء الشموع، منتظراً عودة الكهرباء أو حلول موعدي، لم تكن ستمر بتلك السرعة، لو لم أكن قد قضيتها في تخمين أسباب مقنعة لبكائها الغزير المرير.
****
خطأ في التعريف
عندما تحرصين على إخفائها بعيداً عن ناظري، وأنت تعلمين أنه سيتم اكتشافها من بعدك، وعندما تحرصين على أن تبقى طويلاً، طويلاً جداً، وعندما تفعلينها أصلاً وأنت مسكونة بكل تلك الكراهية لمن تتصورين أنها تجور على حقك في امتلاكي، فلا تُسمِّها إذن "عَضّة حب".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.