قرارات صعبة

قرارات صعبة

04 ابريل 2014

جون كيري في عمّان (أرشيفية)

+ الخط -

بعد فشل مهمته في فلسطين، وفشله في لقاء الرئيس، محمود عباس، في رام الله، كرر وزير خارجية أَميركا، جون كيري، ما سبق له، ولغيره من ساسة بلاده، أن قالوه آلاف المرات حول "القرارات الصعبة"، التي يجب أخذها.
   في عرف أميركا، ليست هناك قضايا وطنية، تتصل بحقوق الفلسطينيين، التاريخية والراهنة، والتي لا يحق لأحد منهم التفريط فيها، كائناً ما كان موقعه ودوره. في المقابل، هناك نزاع حول أرض يتساوى شعب فلسطين مع الإسرائيليين في موقعهما، وموقفهما منها، يتطلب تسوية يجب أن تتم خارج إطارها الطبيعي، القائم على الحق. لذلك، تمس الحاجة إلى اتخاذ "قرارات صعبة"، جوهرها تخلي أصحاب الحق عن حقوقهم، والمحتلين عن أمرهم الواقع، مع ما يعنيه ذلك من تخلٍّ عن الوطن بالنسبة للفلسطينيين، وكسب بالنسبة للإسرائيليين الذين بدل ان يعيدوا الأرض إلى أصحابها، سيضمون قسماً منها إليهم، وسيسيطرون على ما سيعيدونه من مناطق ليست اليوم، ولم تكن أمس، لهم، يخالف وجودهم في أي جزء منها القانون الدولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإرادة شعب فلسطين وحقه في إقامة دولة وطنية، سيدة ومستقلة، عليها.
   لو كانت السياسة الأميركية تنطلق من الشرعية الدولية، لبنت موقفها من الاحتلال الإسرائيلي على حتمية انسحابه منها، ودفع تعويضات مالية عن الأضرار التي أحدثها فيها، وعن الثروات التي نهبها، والحيوات التي أهدرها، لكن الموقف الأميركي داعم للاحتلال، ولذلك "يضغط" عليه، بمساعدته على توطيد حضوره الاستيطاني والعسكري في الأراضي الفلسطينية، وتغطية احتلاله في المحافل والهيئات الدولية، وإمداده بأحدث ما في ترسانة واشنطن من سلاح، والتنسيق معه في مسائل استراتيجية، تجعل بقاءه في أراضي فلسطين المحتلة ضرورةً لا محيد عنها، فلا عجب أن يعتبر كيري وغيره انسحابها من بعض أجزائها "تنازلاً مؤلماً وقراراً صعباً"، ويرى في إجبار الفلسطينيين على قبول القليل الذي تخلى عنه من أرضهم " تسوية عادلة "، مع أن سياسات دوليةً، كهذه السياسة الأميركية، هي التي أدت إلى خروج معظم الوطن الفلسطيني من يد شعبه، وأفضت، بما يعادلها تجاه بقية البلدان العربية، إِلى حالٍ قلبت أمور الوطن العربي رأسا على عقب، وجعلت الكيان الصهيوني الطارئ ثابتاً ووطيد الأركان، والكيانات التاريخية العربية آيلة إلى سقوط وزوال، والوافد سيد المنطقة، وشعبها الأصلي بين مقتول ومشرد ومهاجر... إلخ.
   ما هي "القرارات الصعبة" التي يريد كيري من الإسرائيليين اتخاذها، إن كان قد أعلن موافقته على الاستيطان، ودعمه مالياً ليمكن له في الأرض، ويضمن سيطرته على أصحابها العرب؟ وأي قرار صعب ستقبل أن تتخذه قوة عسكرية، تمتلك تفوقاً ساحقاً على جيرانها، ترفض أميركا الضغط عليها، وحجب عونها المالي والتسليحي عنها، وتضع سياساتها العربية والإقليمية في خدمة مصالحها القريبة والبعيدة، وتخطط استراتيجياً لبناء بيئة تمكنها من التفوق أطول أمد ممكن على جميع جيرانها، ولا أوقفت، منذ وقت طويل، تدمير سورية على يد نظامها وجيشه؟ في وضعٍ هذه سماته، يصير من الحتمي القول: من يطالبه الوزير الأميركي ب" قرارات صعبة" هو الجانب الفلسطيني الذي لم يعد يحظى بأي دعم عربي منظم أو فاعل، ولم تعد لقضيته أولوية حقيقية، بالنسبة إلى السياسات العربية والدولية، ويراد له التنازل عن حقوقه، الوطنية والسياسية، والخروج من مولد التسوية السلمية بلا حمص.  أقله لأن ما سيتبقى له من أرض لن يتخطى الخمسة عشر بالمائة من مجمل مساحتها، سيخرج شكلياً من أيدي المحتل، لكنه سيظل فعلياً في قبضته الأمنية والعسكرية، الاقتصادية والاجتماعية.
     من الطبيعي، في نظرة أميركية تعامل الاحتلال صاحب حق في أَرض فلسطين، أن توجه واشنطن ضغطها "كوسيط" إلى صاحب الأرض، ليس فقط لأنه الطرف الأضعف، بل كذلك لأن "الوسيط" حريص على خروج المحتل رابحاً من "تسويته"، خصوصاً وأنه حليف استراتيجي له، وسيضع مكاسبه في خدمة قضيتهما المشتركة، والتي يجب التعامل معها،  انطلاقاً من شروطٍ تختلف عن كل ما سبقها من شروط، في نيّفٍ وثلاثة أَرباع القرن، لعب الحليف خلاله دوراً استثنائي الأهمية، والعائد بالنسبة إلى مصالح أميركا وأمنها، فما بالك بالدور الذي سيكون عليه القيام به من تدمير سورية والمشرق العربي فصاعداً، ويراد له أن يتم في إطار شراكةٍ استراتيجيةٍ مع إيران ضد عالم عربي في طريقه، اليوم، إلى خارج السياسة وحساباتها، يرجح أَن يستمر خروجه إلى زمن يبدو طويلاً، ستتخطى مهام إسرائيل فيها أية مهام سبق لها أن نفذتها، لا محيد عن انطلاقها من قاعدةٍ واسعةٍ وصلبة، أساسها تقوية دولة الاحتلال، وتوطيد هيمنتها العابرة للحقوق والحدود، وليس كبحها أو تفكيكها.
  لا تعني "القرارات الصعبة"، التي يريدها كيري، غير تلك التنازلات الماسّة بحقوق الفلسطينيين ووطنهم، والتي ستمثل نقلة إضافيةً في ضياع فلسطين ومأساة شعبها. هذه القرارات لن يعطيه إياها شعبٌ يدافع عن حقوقه ووطنه، منذ نيف ومائة عام، يحمل وطنه بين جوارحه، ويقول تاريخه إِنه لن يتخلى عن حبة رمل واحدة منه

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.