في حضن الصين

في حضن الصين

15 يوليو 2020
+ الخط -

صادقت الحكومة الإيرانية، بحسب صحيفة نيويورك تايمز في عددها السبت الماضي، على اتفاقية "شراكة استراتيجية" مدتها 25 عاما مع الصين. وبذلك تكون إيران قد خطت خطوتها الأخيرة نحو قطيعةٍ كاملةٍ مع الغرب، واختارت لنفسها موقعًا بين أصدقائها في المعسكر الذي تتأهب الصين لقيادته، إلى جانب كوريا الشمالية وميانمار وفنزويلا، مع عودة التنافس بين القوى الكبرى في النظام الدولي. إيران تتفاوض مع الصين منذ مدة حول هذه الاتفاقية التي اقترحها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال زيارته طهران عام 2016. وكان مفترضا أن يتم الإعلان عنها قبل أن يضرب وباء كورونا أواخر العام الماضي، لكن اعتراضاتٍ من داخل النظام الإيراني حالت دون ذلك. وكانت تسريباتٌ ظهرت حينها في وسائل الإعلام أشارت إلى بعض بنود الاتفاقية، وينص أحدها على أن تضخ الصين استثمارات بقيمة 400 مليار دولار في الاقتصاد الإيراني على مدار ربع قرن، تستهدف قطاع النفط والغاز خصوصا، ولكن الصين اشترطت أن تحمي هي بنفسها استثماراتها من خلال إرسال قوة عسكرية قوامها خمسة آلاف رجل يتركزون حول منشآت النفط والغاز الإيرانية، لكن تحفظات داخل النظام الإيراني على هذا البند حالت دون توقيع الاتفاقية.

قرّرت إيران، على ما يبدو، الآن أن تمضي في توقيع الاتفاقية التي تقع، بحسب "نيويورك تايمز"، في 18 صفحة، وتعني، في حال صادق عليها البرلمان الإيراني، ارتهان إيران بالكامل للصين، لا بل اعتبر الرئيس السابق، أحمدي نجاد، الاتفاقية، التي تتضمن بنودا سرّية برأيه، بمثابة بيع إيران للصين في لحظة ضعف، إذ لن يبقى قطاع اقتصادي خارج متناول الشركات الصينية، من الاتصالات إلى الموانئ والطاقة والبنوك والسكك الحديدية. وفي مقابل هذه الاستثمارات، سوف تحصل الصين على النفط والغاز الإيراني، بحيث تغدو إيران حرفيا "محطة وقود صينية". ولتنفيذ الجزء المتعلق بها في الاتفاق، سوف تضاعف إيران طاقتها الإنتاجية من النفط من 4 ملايين إلى 8 ملايين برميل يوميا، تم بموجب الاتفاق بيعها بالكامل للصين لمدة ربع قرن. وسوف تقوم الصين أيضا بتطوير حقل غاز بارس الجنوبي، الذي تتشاركه إيران مع قطر، وكذلك حقول نفط عبادان بالقرب من شط العرب، فضلا عن استثمار الجزر الإيرانية في قشم ورستم وتطويرها.

هذا يعني أن الصين دخلت منطقة الخليج من أوسع أبوابها، وهي خطوةٌ ستكون لها تداعيات كبيرة على الأمن الإقليمي والعالمي والنظام الدولي، علما أن الولايات المتحدة جعلت دخول المنطقة حراما على أي قوة دولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أحد أكثر المشروعات التي تثير الأميركيين في الاتفاقية هو تعهيد إيران استثمار ميناء جاسك على بحر عُمان للصينيين. وهذا يعني أن الصين سوف تتحكّم، بموجب ذلك، بمدخل الخليج الذي يقع فيه مقر الأسطول الخامس الأميركي، وحيث يعبر 20% من نفط العالم إلى الأسواق. وسوف ينضم جاسك بذلك إلى سلسلة الموانئ التي أنشأتها الصين بموجب استراتيجية أطلقت عليها اسم "عقد اللؤلؤ" وجعلتها بمثابة محطات تجارية (وعسكرية ربما) تمتد من بحر الصين الجنوبي وصولا إلى البحر الأحمر، وهي تشمل موانئ، كياوكبو في ميانمار، وهانبانتوتا في سيرلانكا، وجوادر في باكستان، وجاسك في إيران، وصولا إلى جيبوتي التي أنشأت فيها الصين قاعدة عسكرية عام 2015.

تحرّر هذه الاتفاقية الصين من الاعتماد على خطوط النقل البحري التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، وتعزّز أيضا موقعها في مقابل روسيا في مناطق وسط آسيا وغربها. أما بالنسبة لإيران، فيتوقع أن تؤجّج الاتفاقية التنافس الدولي عليها، وقد تعيدها، كما كانت خلال القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، مسرحا للصراع بين القوى الكبرى (بريطانيا وروسيا في ذلك الوقت). قد تكون إيران، بمحاولتها الهروب من العزلة والعقوبات الأميركية، أوجدت لنفسها مشكلة أكبر، فاتفاقية الشراكة مع الصين ليست حدثا عاديا، ولا قضيةً ثنائية بين بلدين، بل تؤشر إلى تغير كبير في خريطة التحالفات الدولية، وموازين القوى في مثلث أميركا – الصين - روسيا، وهذا أمر لن تسكت عليه واشنطن، وموسكو، ولا نيودلهي أيضا، لتغدو حينها إيران كالمستجير من الرمضاء بالحضن الصيني.