في حاجة اليسار العربي إلى ميكافيللي

17 يوليو 2014

مؤتمر عام لحزب الاتحاد الاشتراكي المغربي (مارس/2001/أ.ف.ب)

+ الخط -

تضاعفت مآزق اليسار في المشهد السياسي العربي، بعد وصول التيارات المحافظة إلى السلطة في أغلب البلدان العربية، حيث ساهمت وضعية التراجع التي يعيشها، اليوم، إضافة إلى عوامل أخرى، في طبع المشهد السياسي العربي بالصورة التي هو عليها اليوم. وإذا كان مؤكداً أن أزمة اليسار السياسي العربي أصبحت ظاهرة مكشوفة، منذ عقود، فإن صعود تيارات الإسلام السياسي إلى دفة الحكم ضاعف المآلات الخاسرة لتيارٍ، يفترض أن يكون مؤهلاً، بحكم نزوعه الحداثي ومساعيه التاريخية، لتصدُّر واجهات العمل السياسي في أغلب البلدان العربية.

واكب تطور اليسار في مجتمعاتنا نوعية التحولات التي عرفها العالم، بعد الحرب العالمية، حيث انتعشت حركات التحرر العربية فيما كان يعرف بالعالم الثالث. وتصاعد المد اليساري في مجتمعاتنا، رافعاً شعارات التنمية والعدالة والتقدم، وقدمت تياراته في الفكر، وفي العمل السياسي جهوداً ساهمت في بناء مواقف وخيارات سياسية، لا أحد ينكر أدوارها في تحديث المجتمعات العربية، على الرغم من الوعي المتأخر لديها بأهمية المفاهيم والاختيارات الحداثية الديمقراطية وعدم تناقضها مع مشروع بناء الدولة الوطنية العربية.

لم تلتقط فصائل اليسار العربي وتياراته، الأسئلة الجديدة التي أصبحت تشكل مقدمات العمل السياسي، في شروط تاريخيةٍ، تحكمها متغيرات إقليمية ودولية جديدة. ولم تستطع نخبه وطلائعه بلورة الشعارات المناسبة لتحولاتٍ، حصلت في الفكر وفي المجتمع، وأصبحت تستدعي، بالضرورة، بناء آلياتٍ أخرى في التنظيم والمبادرة والعمل. مقابل ذلك، نشأت من رحم التيارات الدينية، والدعوية، فصائل سياسية اختارت العمل السياسي، وركبت دروبه التنظيمية، محاولة الاستفادة من تجارب حركات التحرر العربية، عاملة على تنويع مجالات حضورها وتوسيعها في المجتمع، بهدف الاستفادة من حالة التراجع التي عمت فصائل اليسار.

ينبغي ألّا يغيب عن البال، هنا، أن شبكة التنسيق والعمل بين تيارات الإسلام السياسي في المجتمعات العربية تطورت، بشكل ملحوظ، في مؤتمرات العمل القومي التي ساهمت في الربط بين هذه التيارات. كما ساهم الدعم المادي الخليجي في إسناد بعض أجنحتها وتقويتها، بتنسيقٍ مع بعض الخيارات السياسية التي ترى أهمية إشراك بعض نخب الإسلام السياسي في مشروع الإصلاح السياسي الديمقراطي، بهدف محاصرة جيوب الإرهاب. وقد حصل في قلب العملية المركَّبة التي حاولنا تشخيص جوانب منها انخراط مجموعات كبيرة من الشباب في العمل السياسي، من دون اهتمام بالمرجعية العقائدية التي تحملها هذه التيارات، منطلقين من المبدأ المكيافيللي الذي يُقر بأن الغاية تبرر الوسيلة.

لم تنجز أحزاب اليسار، وهي في الأغلب الأعم أحزاب اشتراكية، مع مجموعات قليلة، تتبنى الماركسية من منظور عقائدي خالص، مطلب النقد الذاتي، المفتَرَض أن يكون مؤشراً على مقتضيات وعيها الجديد، بتحولات عالمٍ، تطبعه أزمة القيم وثورات التقنية، المتلاحقة بإيقاع سريع.

لم تنتبه تيارات اليسار العربي، بصورة جدية، للأجيال الجديدة من المفاهيم التحديثية التي أصبحت متداولة، بكثافة، في الخطابات السياسية العربية، فظلت، في أغلبها، تتحدث لغةً لم تعد قادرةً على الإحاطة بالتحولات التي جرت في مجتمعاتها. وترتب عن كل ما سبق اتساعٌ كبير في المسافة بين شعاراتها وما تتطلبه المجابهة المطلوبة في الراهن العربي، حيث أصبح المجال السياسي يستدعي بلورة مواقف وآليات أخرى في التعبئة، من أجل التمكن من مواجهة تحدياته.

إن معاينة أحوال اليسار العربي، سواء في تنظيماته، أو في إعلامه ولغته، وكيفيات نظره لما جرى ويجري اليوم في العالم، وفي مختلف البلدان العربية، تظهر بجلاء أشكال التصلب التي لحقت أنماط فعله في المشهد السياسي العربي، حيث لا يتردد المنتسبون إليه في استمرار تَكرارهم مواقف وخيارات مرتبطة بسياقاتٍ تاريخية، لا علاقة بينها وبين المتغيرات التي عرفها الواقع العربي. وتمكننا الصلابة الحاصلة في فكر اليسار وعمله في مجتمعاتنا، من التأكد من غياب الروح الميكافيللية من أنماط حضوره وفعله السياسيين.

تتمثل الروح الميكافيللية في كفاءة الانتباه إلى المتغيرات الجارية، مع ضرورة العمل على تكييف الطموحات مع مقتضيات التحول الجارية. لم تكن تصورات ميكافيللي السياسية قائمة على خياراتٍ مطلقة، قدر ما كانت تنخرط في جدليات التاريخ المتناقضة أحياناً.
ولا ينسجم الارتباك الذي لحق، اليوم، أغلب تيارات اليسار العربي، لا مع مكاسب الفلسفة السياسية الحديثة ودروسها، وهي مكاسب منحت الفكر التاريخي مفاصله الكبرى في النظر السياسي، ولا ينسجم مع الروح التاريخية التي يحملها مشروعه في الإصلاح والتغيير. كما أن تشرذمه في حلقاتٍ مغلقة، مكتفيةٍ بذاتها بطريقة لا تاريخية، لا يسمح له بتحقيق الحضور التاريخي والمجتمعي المطلوب في العمل السياسي.

استسهل اليسار العربي المحفوظات، ولم يعمل على نحت المفردات القادرة على الإحاطة بأسئلة ووقائع محددة، ومن هنا، نتصور أن تعزيز حضوره السياسي يقتضي العمل في جبهةٍ، تعنى، أولاً، بمواصلة العمل على مزيد من تحديث المجتمع، ولا يكون ذلك بدون رفع حال التشرذم، وبناء قطب سياسيٍ، يروم ترسيخ قيم الحداثة والتحديث في مجتمعنا.

تَعَوَّد الفاعل السياسي اليساري النظر إلى الميكافيللية بطريقةٍ، ترى فيها فلسفة في التسويغ السهل للمواقف، متناسياً المآثر الكبرى التي منحتها مكانةً خاصةً، في الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة. يتجلى ذلك في الأهمية التي منحها ميكافيللي لدور الصراع السياسي في التاريخ، وفي الحقل السياسي بالذات، وعنايته بتعدد متغيرات المشهد السياسي. وعندما يستمر الفاعل السياسي اليساري في تحصين مواقفه المبدئية والعامة، فإنه لا يعمل في العمق، إلا في مزيد من عمليات التشرذم السياسي، الأمر الذي يبرز إغفاله قواعد الميكافيللية، ودروسها المفتوحة على مكر التاريخ ومُمكناته. 

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".