في ثمانين أمل دنقل

في ثمانين أمل دنقل

03 يوليو 2020
+ الخط -

كنّا هناك، في فاس ربيع العام 1991، في ملتقى للإبداع النسائي، السينمائي في دورته تلك. شاهدنا أفلاما بحضور من أنجزْنها. كانت عطيات الأبنودي إحداهن. شاهدنا معها فيلمها التسجيلي "إيقاع الحياة"، وراقت لنا كثيرا، نحن الصحفيين، الجلسات والدردشات معها، رحمها الله. أخبرَتْنا أن معها نسخة من فيلمها "حديث الغرفة رقم 8"، عن الشاعر أمل دنقل. لم يكن مدرجا ضمن عروض الملتقى، غير أن عطيات أبلغتنا أن علينا، إذا أردنا مشاهدته، أن نشكّل "قوة ضغط" على إدارة الملتقى لترتيب عرضٍ له لنا، ولمن يحب مشاهدته. فعلنا ذلك (كان معنا الصديق والزميل الجزائري، الراحل قبل شهور، عياش يحياوي). نجحت "خطّتنا" تلك، بقيادة بيار أبي صعب، الذي أدار الندوة الحوارية بعد عرض الفيلم.

تمرُق تلك الحدّوتة في خاطري، وأنا أطالع، الأسبوع الماضي، استعاداتٍ للشاعر، الكبير حقا، في بعض الصحافة العربية، بمناسبة عيد ميلاده، هو الذي عاش 43 عاما، وترك أثرا حاضرا، وفائق القيمة والمتانة، في الشعرية العربية الحديثة. وهنا أشارك زملاء سؤالَهم عمّ كان سيقوله ويكتبه أمل دنقل لو أطال الله عمره، واحتفل قرّاؤه بعامه الثمانين قبل أيام. يبدو سؤالا عبثيا، وقد قالت زوجته، عبلة الرويني، مرّة، إنه لم يكن يحفل بعيد ميلاده، ومرةً وحيدة احتفل بالمناسبة معه صديقُه جابر عصفور. وقد كتبت عبلة عن أمل كتابا حارّا سمّته "الجنوبي"، فيه حكايتهما، قبل زواجهما، وفي أثنائه لمّا كان "الشعر هو سيد بيتنا الوحيد". وفيه تفاصيل تعرّفك بشخصه، قلقا وحادّا، ومهموما بالشعر، وخشن الطباع أحيانا، وبالغ الدفء في أخرى، دائم الاحتجاج، يعرف مواطن الخصومة ومواضع الصداقة. وفي الكتاب حكاياتٌ كثيرة تضيء على ما كانه الشاب الصعيدي الوافد إلى القاهرة، وعلى رقّته زوجا، وعلى سُخطه على السلطة ومن يهادنونها. وفيه أنه لمّا قرأ مقالة صديقه يوسف إدريس في صحيفة، يتظلم فيها من الرئيس إلى الرئيس (أنور السادات)، لم ترُق له، وقال إن على إدريس أن يعرف إنه أهم من رئيس الجمهورية. وتسجّل عبلة إنها لمّا سمعت منه في 1976 قصيدته "خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين"، قالت له إنها لا يمكن أن تُعجب بقصيدةٍ تدين جمال عبد الناصر، فيقول لها: لا أكره عبد الناصر، ولكن في تقديري دائما أن المناخ الذي يعتقل كاتبا أو مفكرا لا يصحّ أن أنتمي إليه أو أدافع عنه .. إن قضيتي ليست عبد الناصر، حتى لو أحببته، ولكن قضيتي دائما هي الحرية.

أسترجع هنا من "الجنوبي" هذه النتف، من نسخةٍ قدّامي لطبعة متأخرة منه، وفيّ أسفٌ لفقدي نسخةً من طبعته الأولى، أهديتُها من عبلة الرويني في منزلها في القاهرة، أسبوعا بعد صدوره في خريف 1985 (أو شتاء 1986). وأسترجع فيّ شغفي بأمل وشعرِه، وبشخصيته كما قرأتُ عنها، وقد ساهم في الأمر الصديق العتيق طلعت شناعة الذي "اقتنص" حوارا صحفيا لافتا مع الشاعر الراحل في الغرفة رقم 8 في الطابق السابع في المستشفى، ونشره في "الرأي" الأردنية. ومبهجٌ أن هذا الشاعر، صاحب القصائد الباقية والعابرة للأزمنة، يقيم في مدارك شباب ثورة يناير في مصر وما بعدها وما قبلها من نوبات ثورية واحتجاجية، فمقاطعُ من قصائده كتبوها في لوحات الغرافيتي على الجدران، من "كلمات سبارتاكوس الأخيرة": لا تحلموا بعالمٍ جديد/ فخلف كل قيصرٍ يموت/ قيصرٌ جديد. وكذا ذلك المقطع الحاذق من قصيدته الأشهر "لا تصالح"، والتي ارتحل فيها إلى واقعة مقتل كُليب التي أشعلت حرب البسوس، غير أن أنفاس القصيدة جعلتها صيحةً إلى أنور السادات وكثيرين بعده. كتب شبّان يناير منها في لوحة غرافيتي: أتُرى، حين أفقأ عينيكَ/ ثم أثبتُ جوهرتين مكانهما/ هل تَرى؟/ هي أشياء لا تُشترى.

عاش عمرا قصيرا، ولم يتم دراسته الجامعية، وعانى من ضيق الحال، وأمضى نحو ثلاث سنواتٍ في المستشفى يغالب السرطان، وكتب في أثنائها قصائد بديعة. ومع هذا كله، يُدهشك بثقافته العالية، ودرايته بأساطير الأقدمين، والسير الشعبية، والملاحم والتراث وتجارب الشعوب، والحضارات البعيدة، ففي محموعاته السبع ثمّة شاعرٌ على معرفةٍ بما يصنع ويكتب، هو الذي لم يكن يحب قصيدة النثر. وقد حكت عبلة عن قصائد "عذّبته" وهو يكتبها، ويبنيها "هندسيا" بتعبيرها. وحكت، في غير كتابها، مرّة، إنه لم يكتب سوى ست مقالات في حياته، أربع منها عن أسباب نزول القرآن (!).

هناك، في فاس، شاهدنا على الشاشة، مع عطيات الأبنودي، والدة أمل دنقل تزور قبره، وتقول عنه في طفولته "البلد كلها كانت عارفه إنه هيبقى شاعر كبير" ..

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.