فيصل بوليفة: لنواجه بساطةً تجعل العمّال قدّيسين أو مذنبين

فيصل بوليفة: علينا مواجهة البساطة التي تجعل العمّال قدّيسين أو مذنبين

06 فبراير 2020
فيصل بوليفة: أحبّ فاسبندر وأفلامه (كلود ميدال/ كوربيس)
+ الخط -
بعد إفصاحه عن نفسه بفيلمين قصيرين، نالا أعلى جائزة في برنامج "أسبوعا المخرجين" في مهرجان "كانّ" السينمائي، وهما "نقّطني" (2015) و"اللّعنة" (2012)، الذي قدّمه إلى "المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، يعود فيصل بوليفة، الإنكليزي الولادة، إلى بلدِ والديه (المغرب) مع فيلمه الطويل الأوّل "لينّ + لوسي"، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ18 (29 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، حيث نالت ممثّلتيه الرئيسيتين روكسان سكريمشو (لينّ) ونيكولا بورلي (لوسي) جائزة أفضل تمثيل نسائي، بشكلٍ لا جدل فيه، نظراً إلى أدائهما الذي يحبس الأنفاس.


تحكّم كبير في الإمساك بخيوط سرد، يرتكز في البدء على صداقة حميمية بين لينّ، التي تعيش في توازن نسبي مع زوجها وابنتها، ولوسي، التي تبدو أكثر اضطراباً في علاقتها بشريكها، وأكثر انعزالاً من "ميكروكوسم" القرية الإنكليزية الصغيرة، حيث يهتم الجميع بشؤون الجميع، قبل انهيارها عند رؤية طفلها النور.

عندها، لن يتأخّر محيط البطلتين عن حشر نفسه في حياتهما، وفق "ميكانيزمات" يُجسّد بوليفة عبرها، وبضربة فنية، آفات المجتمعات النيوليبرالية، وسياسات الرأسمالية الخفية الحادة، التي تحصد من دون رحمة أسنان المشط التي تتجاوز حدود التنميط وقوالب الاستهلاكية، وهذا هو الذنب الوحيد للوسي. جمالية الخنق التي ساهم فيها إطار الصّورة المربّع، رغم انفتاح أفق الفيلم ومناخاته المشمسة، والتقابل الجمالي البديع بين أجواء الفضاءات المتباينة وتلك التي تُبرز سطحية وفراغ عالم سيدات صالون التجميل، حيث تعمل لينّ، رغم تمسّحه ببريق المظاهر من جهة، وأصالة لوسي، التي تتبنّى البساطة وترفض قيود الامتثالية، من جهة أخرى.

وكما برع فيصل بوليفة في بعث أجواء بازولينية طبيعية في "اللّعنة"، يضفي هنا لمسة كلبية في الظاهر وإنسانية في مراميها، لا تهادن في التقاط تعقيد الشخصيات وجوانبها الحسنة والسلبية على حدّ سواء، حتى لو كانت ضعيفة أو مقهورة، ما يوحي بتأثير الألماني راينر فيرنر فاسبندر.

تأثير أكّده فيصل بوليفة في حوار "العربي الجديد" معه، بين تفاصيل أخرى.

في البداية، هناك غموض، ينكشف شيئاً فشيئاً، حول علاقة البطلتين لينّ ولوسي، قبل الانتقال إلى منحى آخر غير مُتوقَّع تماماً، كما في فيلمك القصير "اللعنة".
في كلّ فيلم، يوجد حدث يُغيّر مجراه، آخذاً إياه في اتّجاه مختلف تماماً. صراحةً، لم أفكّر في الأمر قَطّ، لكنّي أحرص دائماً على أن يكون الغموض والازدواجية وسيلتين أساسيتين لإيجاد أشياء مثيرة للاهتمام. يصعب عليّ نوعاً ما أن أجزم قاطعاً في موقفي السياسي أو الأخلاقي، أو في شعوري إزاء شخصية معيّنة. يصعب عليّ القول إنّ هذا الشخص طيّب، أو ذاك سيّئ. أعتقد أنّي بحاجة إلى هذا الغموض للعمل، ولأشعر بالأشياء، وإلّا أحسّ بأنّي لست صادقاً في ما أقوم به.

نقطة أخرى مشتركة بين أفلامك هي الاهتمام الذي توليه للشرط الأنثوي. أهذا أساسي في مشروعك الفني؟
أعتقد ذلك. أجد نفسي أكثر في الكتابة حول الإناث، ولا أعرف سبب ذلك. يأتي الأمر طبيعياً. أفترض أنّ هذا عائدٌ إلى وجود ذلك النوع من الغرابة، أو خارج الطبيعة المتأصّلة في الطبيعة الأنثوية في مجتمعاتنا. قد يرتبط التفسير بهذا الأمر. لكن، في الوقت نفسه، أعتقد أن المختلف في أفلامي كامنٌ في ما يحدث للشخصيات، ولا يتحدّد بكون الشخصيات نساء. ما يهمّني هو استكشاف ما ستفعله لينّ (روكسان سكريمشو) عند مواجهتها هذا النوع من القرارات الأخلاقية، التي يجب اتّخاذها، ليس بحكم كونها أنثى أو لا، بل ارتباطاً بمكوّن له علاقة بالأخلاق والسلطة والأسئلة المتعلّقة بالهوية. من هذا المنطلق، لا ترتبط المواضيع الرئيسية في الفيلم، بالضرورة، بالجنس بمعناه الضيّق، أو بما يطلق عليه اليوم الجندرية.


يدور الفيلم أيضاً حول رفض الاختلاف، والمواجهة بين نزعة الفرد وغريزة القطيع في مجتمع مُصغّر.
أنت مُحقّ تماماً. هذا يُثير اهتمامي، ولا سيما في ما يحدث الآن، خصوصاً في الثقافة الغربية، وتحديداً الإنكليزية، التي تُعتَبر مجتمعاً مطبوعاً بتأثير الإعلام والوسائط. هناك هذه الفكرة المرتبطة بالثقافة النيوليبرالية الغربية، التي تقول إنّ من حقّ كلّ واحد منا اختيار هويته الخاصة، وإنّ الهويات مسألة اختيار، أو حرّية خلق. أعتقد أننا نرى اليوم، بعد أعوام من السياسات الليبرالية الجديدة، أنّ الوعد الذي تنطوي عليه هذه الفكرة لم يتمّ الوفاء به، بل أنّ العكس تماماً هو ما يحدث، نظراً إلى ما يحصل في مجتمعاتنا. هذا بالضبط ما يخلق الإحباط والغضب. أعتقد أنّ هذه الأمور تُثير اهتمامي في شخصية لوسي (نيكولا بورلي)، فهي تشعر بأنّها يُمكن أن تكون مميّزة، لأنّ هذا هو ما تدور حوله الثقافة المعاصرة ووعود الرأسمالية بأنّنا سنكون جميعاً مميزين، كلّ بطريقته. لكن الحقائق وواقعها تُخبرها عكس ذلك تماماً. كانت تبحث عن هوية، ومأساتها أنّها وجدتها.

علامة الجمع في العنوان تقول الكثير بالنسبة إليّ. هو ليس "لينّ ولوسي" بل "لينّ + لوسي"، يعني من غير الممكن أن تكون إحداهما من دون الأخرى. هذا، نوعاً ما، الخطأ الذي ارتكبته لينّ، أنّها لم تستوعب هذا في اللحظة المناسبة. جسّدت بشكل رائع كيف ساهم في ذلك نفاق النساء في الصالون وإغراءاتهنّ. أحببتُ أيضاً الطريقة التي استخدمتها لتوحي بأن الـ"إنترنت" يُمكن أن يُخرج أسوأ ما في الناس.
أعتقد أن الكثير من التكنولوجيا ليس جيّداً إلا لإبراز أسوأ ما في البشر. أنتَ محقّ تماماً. أعتقد أنّ صنع هذا الفيلم مناسبة لي كي أواجه مشاعر كثيرة فيّ، بخصوص إنكلترا. أنا لا أعيش هناك اليوم، بل في فرنسا. بالنسبة إليّ، هذا هو الفراغ القاتل الذي تصنعه ثقافة الاعتماد على الإعلام والوسائط في المجتمع البريطاني. هذه الأشياء حاضرة بشكل بارز، ولهذا أردتُ مواجهتها وتصويرها بشكل يُظهر وجهها القبيح. أشياء يمكن أنْ تصبح غير مرئية، ويمكننا بالتالي التعايش معها. هنا تكمن الخطورة. أعتقد أنّ الخطأ الكبير الذي نرتكبه مع التكنولوجيا هو اعتبارها محايدة، وأنّها مجرّد انعكاس لما نفعله بها. لا أثق في ذلك. أعتقد أن هناك جانباً خفياً متأصّلاً في تصميمها وطبيعتها، وبالتالي في ما تُشجّع عليه وما تثبطه.

هناك أيضاً انبهار لدى شخصية لينّ بطريقة عيش النساء في الصالون، أو أسلوب البورجوازية الصغيرة. أعتقد أنّ هذا أيضاً شيء بريطاني في العمق: ضرورة التحدّث عن الطبقات الاجتماعية. لكن الجميل أنّك فعلتَ ذلك بطريقتك، لا بطريقة كِنْ لوتش أو غيره.
بالتأكيد. نحن مجتمع مهووس بالطبقية. أعتقد أنّ المشكلة تكمن في وجود طريقتين في إنكلترا للحديث عنها، وكلتاهما متطرّفتان: تصوير الطبقة العاملة كأبطال وشهداء، أنقياء الذمّة، وجيّدون. أو، عكس ذلك، شيطنتها على شكل حثالة كسولة. يبدو الأمر كأنّنا وقعنا بين هذين النقيضين، وأنا أجدهما كاذبين، ولا أحبّهما مُطلقاً. هذا يُصعِّب التحدّث عن الطبقات في إنكلترا. الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله هو محاولة احتضان نوع من الازدواجية لدى الشخصيات، وجعلها حمّالة أوجه. لكن، من المهم أن نروي هذه القصص، خاصة أنّ هناك في إنكلترا الآن شبه رفض للواقعية الاجتماعية. هناك جمهور لا يرغب في رؤيتها، وصناعة سينما لا تريدها. كلّ ما يطلبونه هو أفلام النوع. يقولون: إذا كنتَ تريد التطرّق إلى طرح اجتماعي، افعلْ ذلك عن طريق فيلم رعب. أتعرف قصدي؟ يُعبّر ذلك إلى حدٍّ كبير عن السينما في إنكلترا اليوم. أعتقد أنّه أمر خطر، لأنّنا نحتاج إلى رؤية هذا العالم على الشاشة. نحن بحاجة إلى مواجهته والكفّ عن هذا النوع من البساطة، الذي يُصوّر الطبقة العاملة إمّا قديسين أو مذنبين. الأمر ليس بهذه السهولة.

شعرتُ بتأثير قليل لأسلوب المخرج الألماني راينر فارنر فاسبندر في الفيلم، خاصة فيلمه "علي، الخوف يأكل الروح"، ذلك أنّ الممثل الذي أدّى دور زوج لينّ يشبه، إلى حدّ بعيد، سالم بن هدّي، الذي مثّل في أفلام فاسبيندر.
هذا صحيح. لم ألاحظ ذلك قَطّ. أحبّ فاسبندر كثيراً. أعتقد أنّ هذا مثل جيّد على فنان ذي حداثة مذهلة، لأنّي أحبّ أفلامه، وكيف تتفاعل مع ما نعيش فيه اليوم. إنه يعانق الفكرة القائلة إنّك، إذا كنتَ من الطبقة العاملة أو ذا مستوى معيشي متدنٍّ، فهذا لا يجعل منك قدّيساً، بل يؤثّر فعلياً على روحك. فاسبندر جيدٌ حقاً في الحديث عن الاضطهاد. لكنّ الناس أساؤوا فهمه، واعتقدوا أنّه ذو نزعة كلبية. تعرّض لانتقاداتٍ، لأنّه لم يُعتَبر "يسارياً بشكلٍ كافٍ". في العمق، مرجع ذلك أنّه أخذ القمع والتّهميش على محمل الجدّ، وذهب إلى أبعد مدى في تصويرهما. عندما نشاهد أفلاماً اليوم، تعرض الناس إمّا طاهرين أو ضحايا، تكون فعّالة على مستوى الالتزام، لكنّي لا أعتقد أنّها أعمال فنية، ولا أعمال ستبقى في الذاكرة، على غرار أفلام فاسبندر، لأنّ أصحابها لا يمتلكون شجاعة كافية لمواجهة تعقيد الواقع. أعتقد أنّ فاسبندر كان شجاعاً جداً، وتابع فكرة القمع والمهمّشين حتى مغزاها المطلق: هؤلاء الناس لن يحافظوا على كرامتهم من دون أن يؤثّر ذلك على أرواحهم.



هذا بمثابة ثمن لا مفرّ من دفعه.
نعم. هذا هو السبب في أنّ الشخصيتين، المرأة العجوز وعلي، المُهاجر المغربي، في "علي، الخوف يأكل الروح"، يُسيء كلّ واحد منهما إلى الآخر. هذا هو الأكثر إثارة للحزن في الفيلم، لكنّه الأكثر حقيقية أيضاً، لأنّهما يصيران انعكاساً لبيئتهما. هذا لا نراه في أغلب الأفلام اليوم، رغم أنّه أساسي وناقد أكثر تعقيداً للأوضاع، دعني أقول ذلك، من أفلام أُعِدّها مجرّد تعبير عن بيانات اليسار. لذلك، أنا سعيد للغاية أنّك رأيتَ تأثيراً، ولو صغيراً، لفاسبندر على جمالية الفيل.

قرأتُ أنّك كنتَ بصدد تطوير مشروع فيلمٍ، حضرت به "مهرجان لوكارنو"، وأنّه سيجري تصويره هنا في المغرب، بعنوان "سحر وثني". أين أنتَ من هذا المشروع الآن؟
هذا المشروع لم يعد موجوداً. أردتُ منذ فترة طويلة أن أصنع فيلماً في المغرب. استغرق الأمر وقتاً طويلاً للعثور على قصّة يمكنني سردها كشخص لديه والدان وعائلة هنا، لكنّه من إنكلترا. أعتقد أنّي وجدتُ القصّة الآن، وستكون هي مشروع فيلمي المقبل.

دلالات

المساهمون