غابرييل غارسيا ماركيز.. العمالقة لا يموتون

غابرييل غارسيا ماركيز.. العمالقة لا يموتون

18 ابريل 2014
"غابو" في عيد ميلاده الـ 87 الشهر الماضي
+ الخط -

"مئة عام من الوحدة والحزن لموت أعظم كولومبي في تاريخنا"، صرّح رئيس كولومبيا البارحة فور وفاة أحد أكبر عمالقة أدب أميركا اللاتينية، غابرييل غارسيا ماركيز. تصريح جاء بعد دقائق قليلة من إعلان قناة "تيليفيزا" المكسيكية أن الكاتب الذي كان قد بلغ السابعة والثمانين من العمر توفي في منزله في مكسيكو محاطاً بزوجته وابنيه، بعد معاناته في أيامه الأخيرة من إلتهاب رئوي.

من مواليد مدينة أراكاتاكا الكولومبية (1927)، لا شيء في طفولة ماركيز يفسّر عبقريته اللاحقة في الكتابة والسرد. لا شيء.. باستثناء عناصر من سيرته الذاتية نعثر عليها في معظم أعماله. فجدته التي ترعرع في كنفها كانت تصدّق بالأشباح والتنبؤات، ونتعرّف إليها تحت ملامح شخصية أورسولا بوينديا في "مئة عام من العزلة. وجدّه "بابا ليلو" الذي روى لحفيده مئات المرات قصة المجزرة التي قام بها الجيش الكولومبي بحق عمّال "شركة الثمار المتحدة" المضربين؛ يحضر بدوره مع هذا الحدث في الرواية المذكورة.

أما والده، غابرييل إيليجيو، ووالدته، لويزا سانتياغا ماركيز، المتيّمين ببعضهما بعضاً، فكان عليهما مواجهة رفض والدّيّ لويزا لعلاقتهما كي يتمكنا من عقد قرانهما، وهو الموضوع الذي استفاد منه لاحقاً في رواية "الحب في زمن الكوليرا".

درس ماركيز الحقوق في مدينة بوغوتا الباردة التي شعر داخلها بالغربة، بعيداً عن موطن ولادته. وفي تلك الفترة كتب قصته الأولى "الاستقالة الثالثة" التي صدرت في صحيفة "إل إسبكتادور". وفي مدينة كارتاجينا حيث انتقل لمتابعة دراسته، أخفق في الحصول على شهادته، لكنه اكتشف شغفاً جديداً، الصحافة، فبدأ في الكتابة مع صحيفتَي "إل يونيفرسال" و"إل هيرالدو". وفي هذه المدينة أيضاً التقى كتّاب مجموعة ""بارانكويلا" وقرأ جميع أعمال فيرجينيا وولف وجايمس جويس وويليام فولكنر الذين شكلوا مصدر وحي كبير لنصوصه اللاحقة.

في العام 1955، صدرت روايته الأولى "أوراق في العاصفة" التي تظهر فيها للمرة الأولى قرية "ماكوندو" الخيالية والنموذجية. لكن، على أثر التهديدات التي تلقاها بسبب مقال شكّك فيه بالموقف الرسمي من غرق السفينة الحربية الكولومبية، "كالداس"، اضطر ماركيز إلى الاستقرار في أوروبا حيث تابع عمله الصحفي كمراسل. عملٌ سيمنح رواياته تضاريسها الخاصة.

وبعد عودته إلى أميركا اللاتينية، وجد هذه القارة أكثر حيوية من أوروبا، فعمل في كاراكاس داخل صحيفة "مومِنتو". وفي تلك الفترة، استوحى من هروب الرئيس ماركوس بيريز جيمينيز إلى جزيرة سان دومانغ، لكتابة رواية "خريف البطريرك" (1975) التي جدد فيها النوع الروائي المرصود لفضح الطغاة. وفي العام 1959، زار كوبا وتعاطف مع القضية الثورية، فأسس وكالة إعلامية كوبية، "برينسا لاتينا"، وعمل فيها من نيويورك حتى عام 1961، علماً أنه لم يتوقف عن دعم حركة كاسترو، صديقه.

لكن يجب انتظار استقراره في المكسيك كي يعرف ماركيز شهرة أدبية كبيرة، مع نيله جائزة "الأكاديمية الكولومبية للآداب" على رواية "الساعة الشريرة" عام 1962. وبين عامّي 1965 و1966، كتب تحفته الأدبية، "مئة عام من العزلة"، التي صدرت عام 1967 وتغنى بها صديقه الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في دراسة تعتبر إلى حد اليوم من أفضل التحليلات التي نالها هذا العمل، قبل أن يختلف الصديقان على حب زوجة فارغاس يوسا.

ومع هذه الرواية، أطلق ماركيز تياراً أدبياً جديداً هو "الواقعية السحرية" التي تقوم على مزج مثير لفصول من تاريخ أميركا اللاتينية مع أساطير وخرافات يتم استخدامها كعناصر واقعية، ضمن أسلوب شهواني واستحضاري. ويسرد ماركيز في هذه الرواية قصة عائلة بوينديا في قرية "ماكوندو"، مستعيناً ببنية زمنية دائرية حيث قصص سفاح القربى والموت تعود إلى ما لا نهاية حتى اللعنة الأخيرة.

وستعرف هذه الرواية نجاحاً نادراً تنبأ بنجاحات أخرى مماثلة، مع نص "خريف البطريرك" الذي هو كناية عن قصيدة نثر طويلة، ورواية "أخبار موت معلَن" التي كتبها ماركيز على شكل ريبورتاج. ولا عجب بعد ذلك من نيله جائزة نوبل للآداب عام 1982 على "رواياته وقصصه التي يختلط فيها الخرافي والواقعي داخل عالمٍ تتحكم به مخيّلة غنية، عاكساً حياة قارة بكاملها وصراعاتها".

وبعد الجائزة، أصدر ماركيز رواية "الحب في زمن الكوليرا" (1985) التي سرد فيها قصص حب مقهورة، ثم رواية "الجنرال داخل متاهته" التي تناول فيها المرحلة الأخيرة من حياة سيمون بوليفار. ورغم مرض السرطان الذي ضرب رئتيه عام 1992، وخضع بسببه لعملية جراحية خطيرة، إلا أن ذلك لم يخفف من نشاطه الكتابي، فأصدر رواية "عن الحب وشياطين أخرى" (1994) التي استعاد فيها جميع موضوعاته المفضلة، ثم "يوميات اختطاف" (1997)، وهي رواية وثائقية حول ستة رهائن في قبضة عصابة تاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار.

وعلى أثر تشخيص سرطان ليمفاوي لديه عام 1999، قرر ماركيز إصدار سيرة ذاتية، "عشتُ لأروي"، تبعها ديوان قصصي رائع وأخير، "ذكريات عاهراتي الحزينات" (2004).

لم يبالغ الرئيس الكولومبي الحالي بقوله البارحة في نعي ماركيز: "إن العمالقة لا يموتون"، فبترسيخه أدب أميركا اللاتينية في تاريخها المعاصر، وعدم تردده في مقاربة العنف الذي يهزّها، ضمن توظيف بارع لفولكلورها الذي تناوله من وجهات نظر مختلفة وبطرافة وأسلوب فريدَين؛ أثار هذا العبقري إعجاب جميع كتّاب أميركا اللاتينية الذين أتوا بعده، فتأثّر معظمهم بأعماله قبل أن يتحرروا مؤخّراً منها، لكن بدون أن ينكروا دينهم الكبير له.

المساهمون