عِلّة الأخبار في الحراك الشعبي الجزائري

عِلّة الأخبار في الحراك الشعبي الجزائري

16 ابريل 2019
+ الخط -
من يتابع عن كثب التطورات التي تعيشها الجزائر منذ أسابيع يصاب بالذّهول من حجم الأخبار المزيّفة، وسرعة انتشارها وسط مختلف الشرائح الاجتماعيّة. بل يعجز، في أحيان كثيرة، عن تمييزها عن الأخبار الصادقة. وقد أصبح هذا الأمر يثير قلقاً كثيراً يربك الحراك الشعبي، ويرهن مستقبله القريب. ومن جملة ما تم تداوله من أخبار مزيّفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بدءًا من 1 مارس/ آذار الماضي، قائمة الممنوعين من مغادرة التراب الوطني، والتي أُضيفت إليها أسماء وأسقطت منها أخرى، حسب أهواء من وضعوها. ونتيجة ما أحدثه هذا الخبر من قلق في المجتمع الجزائري، لجأت أجهزة الأمن المختصة إلى نفي وجود هذه القائمة. وشاع خبر إقالة نائب وزير الدفاع، ورئيس أركان الجيش، ساعات قليلة قبيل استقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. وعُزّز بصورة لنص مرسوم الإقالة مستندا إلى المادة 72 من الدستور الجزائري لإثبات صحّته. وعند العودة إلى الدستور، نجد أن المادة المذكورة تنص حرفياً على: "تحظى الأسرة بحماية الدّولة والمجتمع" (!). وبعد استقالة الرئيس بوتفليقة مباشرة، انتشرت أخبار في المنصات الرقميّة عن هروب وزراء حكومة أحمد أويحيى المقالة، والقبض على وزير العدل السابق فارّا على الحدود المغربية، ما اضطره إلى الظهور أمام الملأ لتفنيد الخبر. هذا إضافة إلى أخبارٍ طاولت أعضاء الحكومة الحالية المغضوب عليها و"قادة" الحراك الشعبي، والتي استعانت بصور تم التلاعب بها بـ"الفوتوشوب"، قصد النيل من شرفهم وسمعتهم.
بصرف النظر عن السياق الذي انتشرت فيه الأخبار المزيّفة، لا تعدّ الجزائر البلد الوحيد الذي 
أصبح يعاني من وطأتها. لقد وصفها بعضهم بالحريق الذي يشبّ في الغابة الرقميّة، فبلدان كثيرة لم تقيّم بعد كلفة الخسائر التي سببتها لها الأخبار المزيّفة، بدءًا بالتي أطرت حملة الانتخابات البريطانيَة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى حملة الانتخابات الأميركيَة التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وما زال يوظف بعضها ضد خصومه الديمقراطيين، لتبرير سياسته ومواقفه، مثل الانسحاب من اتفاق باريس حول المناخ.
تجندت مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام لمحاربة الأخبار المزيّفة في البلدان التي تضرّرت منها، وما زالت تحاربها. بينما انصرفت صحف وقنوات تلفزيونيَة خاصة في الجزائر ومواقع إخبارية عديدة في شبكة الإنترنت، ناهيك عن الحسابات المشبوهة في "فيسبوك" و"يوتيوب"، إلى ترويج هذه الأخبار التي أصبحت تثير النّعرات الجهويّة، وتنال من الحياة الخاصة للأشخاص، وتخوّن من تشاء وتحاكمه من أجل التّفرقة بين الشعب وزرع الأحقاد والضغائن وإثارة البلبلة في المجتمع. وهكذا اختلطت الأخبار الحقيقية والصادقة مع الكاذبة والمغشوشة، ما يتطلب إعادة تعريف الأخيرة.
يعتقد بعضهم أن الأخبار المزيّفة التي زاد الاهتمام بها بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي تعدّ ترجمة عملية للشائعات. والكل يعلم أن الشائعات ظاهرة موغلة في التاريخ، ويحتمل أن تتضمن أحداثا حقيقية أو مغلوطة. وهذا خلافا للأخبار المزيّفة التي تروج أحداثا كاذبة. وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني أكسل جلفيرت، الذي أكد أن الأخبار المزيّفة ادعاء خاطئ، أو مخادع ومقصود بوقوع أحداث يزعم أنها حقيقية، أو نقل لأخبار مُحَرَّفة أو مُشًوَّهة وحتّى مُلَفَّقة لغرض التَسلية أو التضليل.
كان للفلاسفة الحظ الأوفر في تعريف "الأخبار المزيّفة"، فبعضهم أطلق عليها مسمى "أخبار ما بعد الحقيقة". وهي التسمية التي تندرج في منظور ما بعد الحداثة الذي يرى أن الواقع 
تغير، وأضحى يتطلب فكرا مركبا لإدراكه. الفكر الذي يُطَلّق الثنائيات التي كانت تؤطره، فثنائية الواقعي والخيالي، على سبيل المثال، لم تعد كافيةً للتعبير عن التطور الذي فرضته التكنولوجيا الراهنة، فأُدْخِل عليها مفهوم ثالث، وهو الافتراضي. كذلك الأمر بالنسبة للحقيقة والكذب اللذين أُدْخِل عليهما مفهوم جديد وهو "ما بعد الحقيقة"، والذي يتجسد عبر أشكال عديدة، منها "الواقع الفائق".
لعل القارئ لا يريد أن يذهب إلى ما ذهب إليه الفلاسفة، ليسأل معهم: هل أن "ما بعد الحقيقة" مجرد كلمة عابرة، أو تعكس واقعا جديدا؟ اعتقادا منه أن النقاش الفلسفي يبعده عن الإجابة عن الأسئلة العملية التالية: لماذا وجدت الأخبار المزيّفة؟ ولماذا تلقى رواجا واسعا؟ ولماذا يصدّقها جمهور واسع؟
يؤكد خبير الإعلام، أرنو مرسي، أن سياق تحوّل المجتمعات الراهنة جعل الأحداث الموضوعية أقل تأثيرا على الرأي العام من استثارة العاطفة والأفكار الشخصية. وهنا خطورة الأخبار المزيّفة على الأحداث الجارية في الجزائر، وذلك لأن الشارع في حالة تعبئة، ويتقبل بسرعة أخبارا كثيرة وينشرها، خصوصا التي تتماشى مع رغبته التي جاهر بها والدفينة أو التي تزيد في اندفاعه. ولو جاز لنا تعريف الخبر المزيف بأنه "الْإِخْبَارُ عَنْ شَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فيه"، أي الكذب، فإننا نجد في تراثنا ما يجيز وصف أخبار كثيرة متداولة في الشارع الجزائري بالكذب الأبيض الذي يُقصد به التَّوْرية والمناورة والاحتواء.
قد يتساءل بعضهم: كيف أن الأخبار المزيّفة التي اجتاحت الجزائر منذ بداية الحراك الشعبي تعدّت المنصات الرقميّة لتبلغ بعض القنوات التلفزيونية الخاصة الجزائرية والصحف والمواقع الإخبارية؟ للإجابة، يمكن القول إن هذه الوسائل الإعلامية أنشئت بإيعاز وتدعيم من المقربين من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، تحضيرا لعهدته الرابعة ولتحصين الجزائر من تداعيات "الربيع العربي". ووُجِّهت إلى تصفية الحسابات السّياسيّة، والتخويف والابتزاز بمختلف الأشكال: الوشاية والنميمة والتّشهير في ظل صمت، وربما تواطؤ، المؤسسات المكلفة بمحاربة 
هذه الممارسات في وسائل الإعلام. وقد وجدت هذه الوسائل من الجزائريين من يتابعها، وحتى يناصرها، لأنها شكلت متنفسا لهم بعدما سحبوا ثقتهم بوسائل الإعلام الرسميّة. ومن جهة أخرى، يمكن القول إن الصحافة الجزائرية كانت صحافة "جالسة"، قبل ظهور شبكة الإنترنت وانتشارها. بمعنى أنها كانت تنتظر ما يصل إليها من بيانات رسميّة من وكالة الأنباء الجزائرية ومؤسسات الدولة لنشرها. وتهاونت في رفع قدراتها على البحث عن الأخبار واستقصاء مصادرها لتتأكد من صحتها، فهذه الصحافة الموروثة عن الصحافة التجنيدية ظلت مولعةً بالرأي أكثر من اهتمامها بالأخبار. وهنا الخطر الفعلي، فعندما تعمّ الأخبار المزيّفة تصبح الوقائع والحقائق الموضوعيّة مجرد وجهة نظر! وبهذا تتساوى مختلف مصادر الأخبار: المؤسسات الرسميّة، ووسائل الإعلام، والشخص الذي لا يفرّق بين الحدث والرأي، فيضع مواقع التواصل الاجتماعي على قدم المساواة مع وسائل إعلام تحرص على فحص ما تنشره وتمحيصه. قد يجد الشخص البسيط الذي يصدق كل ما يصل إليه من أخبار ما يشفع له، عندما نعلم أن وسائل الإعلام الكبرى في العالم أصبحت تعاني صعوبات كثيرة في سعيها إلى التأكد من مصداقيّة الأحداث، في عالم أصبح يفيض بالأخبار، وتغيرت فيه مرجعية الحكم على صحّتها، فسرعة تداول الأخبار وانتشارها الواسع أضحيا من المؤشرات الأساسية على صحّتها والوثوق فيها، وفي ظل بيئةٍ إعلاميةٍ تبدلّت فيها قواعد العمل الصحافي، نتيجة الضغط الذي تعاني منه المؤسسات الإعلاميّة لتحقيق السبق الصحافي، الضغط الذي يتطلب منها، في مواقف كثيرة، نشر الأخبار قبل التأكد من صحّتها، والتّملّص من مسؤولية التحرّي عن مصدرها ووضعها على كاهل جمهورها.
1607E95F-FA00-476F-9EC4-3285BCDF9E64
1607E95F-FA00-476F-9EC4-3285BCDF9E64
نصر الدين لعياضي
نصر الدين لعياضي