عودة التفجيرات الانتحارية إلى لبنان: "النصرة" تستخدم بريداً دموياً

عودة التفجيرات الانتحارية إلى لبنان: "النصرة" تستخدم بريداً دموياً

12 يناير 2015
جبهة النصرة قررت العودة لاستخدام لغة التفجيرات الانتحاريّة(أحمد صيد/الأناضول)
+ الخط -

عادت التفجيرات الانتحاريّة إلى لبنان بعد أن توقفت أشهر. كان لبنان قد عانى من موجتي تفجير يُتخوّف أن تكون هذه بداية الموجة الثالثة في حال استمرت. بدأت الموجة الأولى في يوليو/تموز 2013 عبر سلسلة من العمليات غير الموجعة على صعيد الخسائر البشرية، قبل أن تصبح هذه العمليات أشبه بالمجازر المتنقلة، بلغت ذروتها بالتفجير المزدوج الذي طاول السفارة الإيرانية وانفجار الرويس.

أمّا الموجة الثانية فبدأت في النصف الثاني من يونيو/تموز 2014، واستطاعت الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانيّة احتواءها وتوجيه ضربات قاسية للمنفذين والمسؤولين عنها، قبل تنفيذ عملياتهم الكبرى، وذلك بعد الاستفادة من المعلومات الأمنيّة التي وفرتها أجهزة أمنيّة غربية للأجهزة اللبنانيّة.

في التفجير الأخير، استهدف تفجير انتحاري مزدوج ليل السبت ــ الأحد مقهى في جبل محسن في مدينة طرابلس ذي الغالبية العلوية، وأدى إلى مقتل تسعة أشخاص وجرح 35 شخصاً. وقد حمل الانتحاريان حزامين ناسفين وفجرا نفسيها بفارق دقائق. وقد تبنّت جبهة النصرة التفجيرين عبر حساب مراسلها في القلمون على موقع تويتر، ووضعتهما في خانة "الانتقام لأهل السنّة في لبنان وسورية".

الانتحاريان هما طه سمير خيّال، 20 عاماً، وبلال محمد مرعيان 28 عاماً. كانا يعيشان في حي المنكوبين الملاصق لجبل محسن. يبعد الحي عن المقهى المستهدف نحو خمسين متراً. تؤكّد مصادر إسلاميّة في طرابلس، أن الشابين غادرا المنكوبين بعد أحداث طرابلس الأخيرة بين الجيش اللبناني ومقاتلين متشددين تابعين لجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بشكل نهائي. وتُضيف هذه المصادر أن خيّال، كان قد شارك في الاشتباكات إلى جانب مقاتلي "النصرة". وسبق للجيش اللبناني أن أوقف خيال لمدة ثلاثة أيام في الأشهر الأولى من عام 2014، وعاد وأطلق سراحه كما تؤكّد مصادر طرابلسية. وعندما أُعيد استدعاؤه غادر إلى سورية والتحق بجبهة النصرة، وصار يتنقل بين لبنان وسورية، ولم يسجّل له أي عمل سابقاً. أمّا مرعيان فقد صدم خبر تنفيذه العمليّة من يعرفه، إذ يقول هؤلاء إنه "يتعاطى الحبوب المخدرة، وشبه مدمن على الكحول" كما سبق أن عمل في أحد المسابح ثم في مكتب لاشتراكات مولدات الكهرباء الخاصة، ثم في سوق الخضار.

وبحسب المصادر الإسلاميّة عينها، فإن الشابين توجها إلى القلمون السورية بعد مغادرة المنكوبين، حيث تلقيا التدريب العسكري والعقائدي على يدي قياديين في "النصرة". وهذا الأمر يؤشّر إلى أن الطريق بين القلمون السورية والأراضي اللبنانية ما يزال مفتوحاً أمام المقاتلين ذهاباً وإياباً.

لكن الأخطر من ذلك ما تؤكّده المصادر الإسلاميّة من أن أكثر من 120 شاباً من المنكوبين سبق وتوجهوا إلى سورية وانضموا إلى "داعش" و"النصرة"، وبالتالي تحوّل هؤلاء إلى قنابل موقوتة يُمكن استخدامها إذا رغب هذان التنظيمان.

ويصف أحد المشايخ في طرابلس حالياً بأن حي المنكوبين بات خالياً من الشباب، "إذ إن معظم الشبان موجودون إما في السجن أو في سورية". لكن ما هو حي المنكوبين؟

يُعدّ هذا الحي من أفقر الأحياء في طرابلس، وغالبية بيوته من التنك، وقد بني في خمسينيات القرن الماضي لإيواء المنكوبين من فيضان ضرب طرابلس، ولا يزال الحي قائماً إلى اليوم!

واللافت أن أحد المسؤولين في تيّار المستقبل قدّم دراسة لقيادة التيّار لتحويل حي المنكوبين إلى حيّ نموذجي عبر بناء بيوت لائقة بسكانه وبنى تحتية وحدائق عامّة وتأمين فرص عمل للشباب، وبكلفة تصل لنحو خمسة ملايين دولار أميركي، لكن تمّ تجاهل هذه الدراسة حتى اللحظة.

الأمر الإيجابي الوحيد الذي يُمكن تسجيله بعد تفجيرات جبل محسن، هو الخطاب الهادئ الذي اعتمد من قبل قيادات الحزب العربي الديمقراطي في الجبل، والخطاب المتضامن الذي لاقاه من باقي فعاليات طرابلس. وقد ساعد هذا الأمر الجيش اللبناني على فرض الأمن في المدينة. إذ سارع الجيش إلى إقفال العديد من الطرقات لمنع أي ردات فعل تحمل طابعاً انتقامياً أو تدفع بهذا الاتجاه. وهذا يؤكّد أن الجيش قادر على ضبط الأوضاع في حال وجود قرار سياسي بذلك.

لكن التفجيرين حملا الكثير من المعطيات، أولها أن جبهة النصرة لا تزال تعتبر لبنان ساحة توجّه الرسائل من خلالها، وهي بهذا التفجير تؤكّد أنها لا تزال قادرة على التحرك في لبنان. وهي تسعى دوماً للعب على الوتر المذهبي ودفع الأمور في لبنان إلى الفوضى لأنه المناخ الذي يُناسبها في العمل. كما أن أسلوب الجبهة بات واضحاً في اعتماد التفجيرات الانتحارية المزدوجة.

ثانياً، توقفت الموجة الأولى من التفجيرات بعدما قُطعت طريق القلمون عبر الطفيل وعرسال، كما قال وزير الداخليّة نهاد المشنوق. ثم فشلت الموجة الثانية من التفجيرات كونها استندت إلى عناصر غير لبنانيّة. تعود جبهة النصرة إلى هذا العمل اليوم عبر الاعتماد على العنصر اللبناني بالكامل. فالانتحاريان من لبنان، وعمليّة كهذه لا تحتاج إلى خبراء في تفخيخ السيارات ولا إلى سيارات مفخخة؛ بل إلى شبان جاهزين، وإلى كمية غير كبيرة من المتفجرات يُصنع منها حزام ناسف، وهذا أمر متوفر في لبنان. وبالتالي فإن القضاء عليها يحتاج إلى جهد أمني داخلي كبير وإلى إرادة سياسة.

ثالثاً، بدأت جولتا التفجير سابقاً في ظلّ مناخ متوتر بين حزب الله وتيار المستقبل، في المرة الأولى على خلفية تشكيل الحكومة، والثانية على خلفية الخلاف على انتخاب رئيس للجمهوريّة. هذه المرة، جاء التفجير بعد جلستين من جلسات الحوار بين حزب الله وتيار المستقبل. يصحّ القول هنا إن الحوار بين هذين الطرفين ضروريٌّ لتأمين الغطاء السياسي للأجهزة الأمنيّة للقيام بدورها، لكن هذا يعني في الوقت عينه، أن تيّار المستقبل بحاجة إلى عمل مضاعف لاستعادة ثقة شارعه به، لمنع هذا الشارع من الانزلاق باتجاه التطرف. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن زيارة أمين عام تيار المستقبل الأخيرة إلى طرابلس منذ أسابيع، أضاءت على تراجع شعبية تيار المستقبل في المدينة.

رابعاً، لم يكن خافياً على أحد من المعنيين بالملف الأمني في لبنان من أن موجة التفجيرات جديدة ستضرب البلد، وقد لمّح المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم إلى ذلك في مقابلة له منذ نحو أسبوعين. وتُشير المعطيات الأمنية إلى أن جبهة النصرة، قررت العودة إلى استخدام لغة التفجيرات الانتحاريّة في لبنان، خصوصاً أن لديها الكادر البشري لذلك، في المقابل، يسعى "داعش"، بحسب المعطيات الأمنيّة، إلى إدخال سيارات مفخخة إلى بيئة حزب الله. وهذا أحد الأسباب التي تدفع التنظيم إلى السيطرة على جزء من الحدود اللبنانيّة مع القلمون السورية، خصوصاً لجهة بلدة عرسال.

هذا التفجير الانتحاري المزدوج، يجب أن يُعيد إلى الأذهان بأن "الحرب على الإرهاب" لا تُخاض بالبندقية فقط، وأن الضغط المستمر على بيئة لبنانيّة وإشعارها بالهزيمة، ثم الضغط حالياً على اللاجئين السوريين سيُنتج المزيد من الانتحاريين. هذا ليس تبريراً، بل استنتاج.

المساهمون