عن تجربة السجن في مصر
مساء يوم 30 يونيو/حزيران من العام الماضي، وبينما كانت الشوارع في مصر تعج باضطرابات سياسية، كنت مع زوجتي في أحد شوارع أبوجا النيجيرية، نستشرف القادم من أيامنا، وظننا حينها أننا قاب قوسين أو أدنى من الاستقرار. فجأة، أضاء هاتفي بإشعار وصول بريد إلكتروني، لم يكن من المعتاد أن أتلقى بريدًا من العمل قرب منتصف الليل. خلاصة الحدث أنني وجدت نفسي، صباح اليوم التالي، على طائرة متجهة إلى القاهرة. وخلال الاثنى عشر شهرًا التي تلت، كانت حياتي توشك أن تتغير وإلى الأبد. بعد ستة أسابيع، كنت في سيارة، مع خمسين شخصًا في طريقنا إلى السجن، اعتُقلنا للتو، وتعرضنا للضرب وسوء المعاملة اللفظية والجسدية من قوات الأمن المصرية. كانت شوارع القاهرة تمتلئ حينها بالفوضى والطلقات والدماء، بالمقارنة بمصراتة 2011 حيث كنت إبّان الثورة الليبية. لم تكن هناك مقارنة حينها، كان الأمر أسوأ!
يعجبني بيت الشعر: وما حب الديار سكن قلبي// ولكن حب من سكن الديارا. حينها، ووقتها فقط، قررت أنني أريد من أحب خارج هذه الديار، لكيلا أفجع فيهم، ولا أصبح على حقيقة أنني سأقضي بقية عمري في هذا المكان. بين أربعة سجون، وخمسة أشهر من الإضراب عن الطعام، بدأت رحلتي الطويلة لانتزاع حريتي مرة أخرى. خلال أعوامي الثلاثة في العمل صحافياً، كنت أوقن أن عبء الاعتقال سيأتي مسرعًا يوماً ما، لكني لم أفكر أبدًا أن ذلك سيحدث في بلدي. وحين أغلق باب الزنزانة علينا في أول يوم، أحسست أن حياتي انتهت، وأنني سأقضي هنا على الأقل ربع قرن، وتزاحمت الخواطر في رأسي. حاولت أن أحاربها لكي أستطيع الاستمرار.
مر الوقت ببطء شديد في أيام الاعتقال الأولى، كنت أجاهد نفسي ألا أعتاد على ذلك، أن تكون صحافيًا في مصر ليس شيئًا سعيدًا! خصوصاً عندما يُهزم صوت العقل. وما زاد الأمور سوءًا عملي لصالح شبكة أخبار لم يكن مرحبًا بها في البلاد أثناء اعتقالي التعسفي. الضباط والمحققون والقضاة لم يصدقوني على الإطلاق، حينما شرحت لهم الفرق بين قناتي الجزيرة مباشر مصر والجزيرة العربية، حيث أعمل، كانوا يظنون أنهما قناة واحدة. الحياة في السجون المصرية عالم منفصل تمامًا. يجب أن تبني علاقات غريبة، لكي تستطيع إنجاز أمورك. يجب أن تمتلك هذه العلاقات لتحصل على حقوقك الأساسية، وعلى الغذاء، أو أن يُسمح لك بإجراء الفحوص الطبية. وحتى تلك العلاقات لا تصلح دائمًا. العملة الموحدة في السجن هي السجائر، فعلبة منها قد تسمح لك بالتنقل بين العنابر المختلفة، أو رؤية أحد الأصدقاء، أو غض الطرف عن بعض تجاوزاتك. لكن مهما يكن، ما يستطيع أحدنا فعله لتحسين وضعه في السجن، يبقى توقنا للحرية مع كل شهيق نتنفسه.
كانت أسوأ مخاوفي بينما كنت أقرر الدخول في إضرابي عن الطعام، وبينما كان يتم نقلي لاحقًا إلى سجن مشدد الحراسة، ألا أستطيع رؤية عائلتي قبل أن أموت، هكذا كنت أعتقد. في الليلة الأخيرة لسجني، كنت في أزمة نفسية شديدة، وقد مضت علي حينها خمسة أسابيع من الحبس الانفرادي، ولم يكن هناك أي أمل. كثيراً ما حدثتُ نفسي، وأصنع من خيالاتي مواقف أطمئن بها نفسي. كنت على وشك أن أفقد عقلي، أو هكذا بدا الأمر.
كانت تجربة الاعتقال، ثم خوض معركة الأمعاء الخاوية، تجربة فارقة في حياتي! تلك الأوقات الطويلة سأتذكرها في كل لحظةٍ، أشعر فيها بعدم قدرتي على الاستمرار، أو حين أفكر في التراجع عما رسمته للمستقبل. جعلت مني ومن زوجتي ومن عائلتي أشخاصًا أقوى! كل منا وجد معنى جديدًا للحياة، ولن يكون الأمر مثلما كان من قبل لأي منا، ستكون حياتنا أفضل، ذلك صحيح، لكن أكثر مشقة، لكوني ربما سأضطر لأن أعيش منفياً في القريب العاجل على الأقل.
كثيرًا ما أسأل نفسي عما إذا كنت أفتقد مصر حقًا، على الرغم من أنني لم أولد أو أكبر هناك، إلا أنني لم أستطع أن أتجاهل الألم في صدري، بينما تختفي القاهرة بين السحب، حينما أقلعت بالطائرة، وأنا على علم أنه سيكون من الصعوبة بمكانٍ أن أعود في أي وقت قريب. أعتقد أن الحرية تستحق أكثر من ذلك. الحرية ليست منحةً ولا هبة من أحد، ليست قابلة للمساومة. منذ الآن، ولحياة قادمة، سأكرس وقتي وجهدي وإرادتي للدفاع عن حق الصحافيين للعمل في عالم حر، حيث لا أحد له الحق في منع الكلمة من أن تخرج للناس. يحدوني أمل بأنه عما قريب سنعيش في عالم لا يقبع فيه صحافي وراء القضبان.