عن إسقاط الأنظمة السلطوية

عن إسقاط الأنظمة السلطوية

01 ابريل 2014

تظاهرة في مصر ضد حكم العسكر

+ الخط -

تظل الثورة، بمعنىً من المعاني، هي النقيض للوضع القائم، حتى وإن كان ثوريا (داليكتك الثورات والثورات المضادة التي تعود جذورها إلى الهيجلية). وذلك إلى الدرجة التي جعلت، إريك هوزباوم، يقول: إن الثورات تبتلع بعضها بعضاً، مثلما فعلت الثورة الصناعية في بريطانيا مع الثورة الاجتماعية في فرنسا. بيد أن الهدف الرئيس من الثورات هو التغيير الجذري للمجتمع والمؤسسات والأفراد، حيث تتشكل علاقة جديدة بين هذه المكونات الثلاثة.
يقدم كلٌ من، جيف جودوين، أُستاذ الحركات الاجتماعية والسوسيولوجي في جامعة نيويورك، وجون فوران، أستاذ السوسيولوجي وعلم الثورات (إن جاز استخدام هذا التعبير) في جامعة كاليفورنيا -(سانت بربرا)، تحليلاً رصيناً ومهماً لفهم ديناميات الثورة، وتفاعلاتها، واستجابة الأنظمة المختلفة لها، والأهم من ذلك ديناميات وتفاعلات مرحلة ما بعد الثورة. وعلى الرغم من الاختلاف المنهجي بينهما في تفسير الثورات (أو التغيير الثوري بالأحرى)، حيث يركز جودوين على دور الدولة state-oriented approach، وطبيعة السياق السياسي المنشئ للتفاعلات الثورية، بينما يركز، فوران، على طبيعة العملية ذاتها process-oriented approach، من حيث تفاعلات اللاعبين، وإيديولوجيتهم وثقافتهم وطبيعة النظام الدولي، فإن كليهما يتفقان على أمر واحد، هو: حتمية وجود حركة/كتلة/ائتلاف ثوري، يمكنها ليس فقط من استغلال اللحظة الثورية وإسقاط النظام، وإنما أيضا الوثوب إلى السلطة، وملء الفراغ، وفرض الأجندة الثورية.
في هذا الصدد، فإن أدب الثورات ومحاولاتها في أميركا اللاتينية (المكسيك 1910-1920، كوبا 1953-1959، نيكاراجوا 1977-1979، السلفادور 1979-1992) وأوروبا الشرقية (بولندا، المجر، بلغاريا، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا) وآسيا (الصين 1911-1949) وجنوب شرق آسيا (الفلبين 1986، إندونيسيا 1998)، غني بأمثلةٍ تخبرنا بأهمية وجود كتلة وضرورته، أو حركة ثورية عابرة للطبقات cross-class والإيديولوجيات cross-ideology والأعراق multi-racial، من أجل تحقيق التغيير الثوري. ويتجاوز الأمر هنا مجرد الالتقاء المرحلي، أو التكتيكي، بين هذه القوى والكيانات، بهدف إسقاط النظام إلى تشكيل كتلة اجتماعية/سياسية، تتبنّى الأهداف المبدئية للثورة، وتضع خطة عملانية لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، ما يتطلب قدراً من المداولات والتفاوض بين أطياف هذه الكتلة، أو الحركة، قبل المضي قدماً.
نظرة خاطفة في الوضع الراهن فى مصر، ربما تعطي الانطباع بأن فرص إنشاء هذه الكتلة، أو الحركة الثورية المتماسكة، لا تبدو متوافرة، أو هي أقرب الى الحلم، وضرب من ضروب الخيال، في ظل التفتت والتشتت الذي ضرب القوى والحركات الاحتجاجية، في الأعوام الثلاثة الماضية، خصوصاً بعد انقلاب الثالث من يوليو الماضي في مصر، بيد أن نظرة أكثر تأنياً وعمقاً تكشف أن العكس هو الصحيح. فمعظم الحركات الثورية، أو التغييرية، نشأت فى ظل الديكتاتوريات والأنظمة السلطوية القمعية (أحد شروط قيام الثورة أصلاً وجود هذه الأنظمة)، لسببين رئيسين: أولهما القمع الممنهج غير المميز (بكسر الياء) للنظام، أَي الذي لا يفرق بين فصيل وآخر، بغض النظر عن انتمائه الإيديولوجي، وثانيهما عدم قدرة كل فصيل وحده على تشكيل تحدٍّ حقيقي للنظام القائم.
هنا، قد يثار تساؤل مشروع: كيف يمكن التغلب على الخلافات والتناقضات الإيديولوجية والعقائدية بين القوى، أو الفصائل التي تمثل القلب الصلب core لهذه الكتلة الثورية؟ هنا، تطرح الخبرات السابقة أحد حلين: الأول (وهو الأسهل عمليا) العمل على استقطاب التيار الأكثر واقعيةً، أَو قرباً من القوى العقائدية المغلقة إن وجد، والثاني (وهو الأصعب) التغاضي عن وجود هذا الفصيل من الأصل، ومحاولة إيجاد (أو العمل معه إن وجد) فصيل مشابه له إيديولوجياً، وإن كان لا يتفق معه سياسياً، في حين يتمثل الحل الأمثل في قدرة الكتلة الثورية على تجذير نفسها، ضمن حاضنةٍ اجتماعية واسعة، قد تمكنها من عزل القوى التقليدية، أو دفعها الى تغيير أفكارها، من أَجل الانضمام الى الكتلة الثورية. لذا فإن إيجاد علاقة مؤسسية بين الكتلة الثورية وحاضنتها الاجتماعية يظل أَمراً ضرورياً ومهماً، سواء لقيام الثورة أو لضمان نجاحها. وهو ما يمكن أَن يتم من خلال تبني أَجندة راديكالية في التغيير، مثلما حدث الأمر فى معظم الحركات الثورية فى أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا، طوال العقود الثلاثة الماضية.
لوهلة، قد تبدو مقولة "أجندة راديكالية للتغيير" مجرد رطانة، أو عبارة إنشائية فارغة المعنى والمضمون، بيد أَنها، في الحقيقة، تعكس مدى جدية وعمق إيمان القوى السياسية المنشغلة بالتغيير اتساقاً بين القول والفعل. بعبارة أخرى، لن تتمكن الكتلة الثورية (بفرض قيامها) على توسيع حاضنتها الاجتماعية، وإسماع صوتها، وجذب التأييد المطلوب لها، من دون تأطير لأجندتها ضمن النسق الثوري المفتوح، وليس وفق شروط اللعبة القديمة وقواعدها، فهكذا لعب "الإخوان المسلمون" في أثناء وجودهم في السلطة في مصر، ومن خلالها، خسروا.
وليس صحيحاً ما يقال، إن ثمة كتلة اجتماعية كبيرة فى مصر مناوئة للتغيير، فالصحيح، أَن هذه الكتلة رافضة للتغيير البطيء، وغير الجذري، والذي يبدو أكثر كلفة بالنسبة لها من بقاء الوضع القديم. بعبارة أُخرى، لا تزال الكتلة الرافضة لسياسات الدولة ونظامها الجديد/القديم موجودة، لكنها ستظل مترددة ورافضة للانحياز الى الكتلة الثورية، ما لم تر من الأخيرة تماسكاً في البناء وجدية في الطرح، وإنجازاً في الفعل. الأكثر من ذلك، إن آلة القمع والعنف الدولتي تعد إحدى أدوات الردكلة والتثوير (radicalization and revolutionaization) لدى الفئات المحافظة، وهو ما يبدو بوضوح الآن في مصر، فقطاعات الطلبة، وبعض المحسوبين على القوى التقليدية، بدأت تبني رؤى وأساليب راديكالية، سواء في التصدي لبطش النظام، أو في رؤيتها لما يجب أن يحدث بعد إسقاطه. والحقيقة التي تبدو واضحة، الآن، أنه كلما ازداد القمع، ازداد مستوى الوعي والتثوير، وربما التطرف لدى القوى الرافضة للوضع القائم.

 

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".