عن "إسلام حضاري"

عن "إسلام حضاري"

23 اغسطس 2018
+ الخط -
كثيرة المصطلحات التي ظهرت حديثا، وتم إلباسها بلباس الدين من هذا الطرف أو ذاك. وفي القرن العشرين، ظهرت مصطلحات، مثل الإسلام السياسي والإسلام الحضاري، وما تفرع منه من مصطلحات كثيرة، كالاقتصاد الإسلامي وأسلمة العلوم إلى غيرها من الإسلاميات التي طفت على السطح. ولكن ما معنى صفة إسلامي التي تنسب هنا وهناك؟
الأشياء المجرّدة التي أطلقنا عليها لفظة الإسلامي هي في حد ذاتها مجرّدة من أي صفة نوصفها بها؛ فالبنك يمارس عمله بموجب النظام المفروض عليه، إسلاميا كان أو غير إسلامي، فلن تغيّر لفظة "الإسلامي" التي علّقناها على لافتة البنك أي شيء؛ ذلك أن "إسلامية" البنك تنطلق من نظام تعاملاته السارية على أمور البنك، لا من لفظة الإسلامي المعلّقة.
هل هناك إسلام غير حضاري؟ وما السبب لهذه التسمية؟ وماذا عن الآخر، هل هناك اليهودي الحضاري مثلا؟
الإسلام بطبيعته دين سماوي أوحيت تعاليمه إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن نسميه بغير هذه التسمية (دين)، أما ما تنبثق من صفات مقتبسة من اسمه، كالحضارة الإسلامية أو الكذا الإسلامي وغيرها، فهي أمور من اختراع البشر الذين حكّموا أفهامهم في أمور هذا الدين وتاريخه وتراثه ليخلصوا لكل هذه المسميات.
كل هذه المسميات تدخل ضمن الفكر البشري المتفاعل مع الدين في صناعة الثقافة أو الحضارة الخاصة به، ومن ذلك مصطلح الحضارة الإسلامية الذي يحيل الحضارة إلى مدلولها الديني، وهذا يضعنا عند مقومات الحضارة، فما هي؟
يعرّف ويل ديورانت، صاحب قصة الحضارة، الحضارة بأنها: "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي"، ويرى صامويل هانتنجتون في كتابه الشهير، صدام الحضارات، أن الحضارة هي "كيان ثقافي"، وهي تتحدد في عدة عناصر، مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات.
نجد أن الدين واحدًا من محددات الحضارة، ويعتبره هنتنغتون واحدا من حدود التمايز بين الحضارات، فيقول: "حدود التمايز بين الحضارات ليست حقيقة فقط، وإنما هي أساسية أيضا: فالحضارات تختلف الواحدة منها عن الأخرى من حيث التاريخ واللغة والثقافة والتراث وأهم من ذلك الدين". فهل يصنع الدين، أي دين، حضارة؟
تاريخ الحضارات، يقول: لا، فلم ينتج الدين المسيحي حضارة، وأكبر دليل على ذلك حركة العلمانية التي تخلصت من سلطة الكنيسة في بداية عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي، ومثله اليهودي، وهل البوذية، باعتبارها دين ولو وضعي، أنتجت حضارة؟
كانت الثقافات هي محرك إنتاج الحضارة، وهذه الثقافات واحد من روافدها هو الدين، لكنه ليس الوحيد، بل لعبت المحددات السابقة دورها بتفاوت من حضارة إلى أخرى في بلورة تلك الحضارة. ويذكر التاريخ أن المفكر الجزائري، مالك بن نبي، اشتبك مع المفكر سيد قطب في خلاف حول الحضارة والدين، فكان الأخير ينفي سمة الحضارة عن أي مجتمع، ما لم يكن إسلامياً. وعلى ضوء ذلك، أخرج كتابه "نحو حضارة إسلامية؟"، ثم غيّر العنوان إلى "نحو مجتمع إسلامي"، وقال في تبرير التغيير: "كلمة إسلامي تعني تلقائيا الحضارة"، ما دفع مالك بن نبي للتعليق: "إنها آليات غير ذكية للتعويض النفسي".
الإسلام لا يصنع الحضارة بذاته، وإنما بالبشر عندما يفهمونه على حقيقته، فيتولون التفاعل الجاد به وخلطه بالتراب والزمان والمكان، فيصنعون من ذلك حضارة، والحضارة الإسلامية هي هذا التفاعل الجاد بين الإنسان والتراب والوحي.
قد ينجح المسلم في هذا التفاعل، فيصنع الحضارة، وقد يفشل، وهو المسلم وينجح غيره أي غير المسلم، فينتج حضارة بقيم ونيات غير إسلامية، لأنه أحسن التعامل مع سنن الله. لعل مسمّى الإسلام الحضاري جاء رد فعل لمسمىّ الإسلام السياسي، إذ يُنظر للأخير أنه حصر الإسلام في زاوية السياسة فقط، في حين أن الإسلام شامل لكل جوانب الحياة!
الواقع إني أختلف مع ذلك كله، ولا زلت أنظر للإسلام على أنه دين سماوي، جاء لمصلحة البشر، وليس "أيديولوجيا" نقولبها كما نشاء ضمن مسمّيات عديدة.
لا بأس ممنْ يتكئ على فهمه للإسلام لصناعة حضارة ضمن مرتكزات الحضارة التي ذكرناها آنفًا، وليس شرطًا التسمية الدينية "الإسلامية"، حتى لا يلتبس الناس بين التدين والدين المتعلق بخصوصية الإنسان وبين الحضارة المتعلقة بالمجتمع أجمع. أما التاريخ الذي حدثنا عن الحضارة الإسلامية، فهناك منْ يسميها العربية أو العربية الإسلامية، ولنقل المشرقية لا ضير، ولعل الغرب هم منْ سموها كذلك من باب التمايز مع الآخر؛ فالمستشرق آدم متز سمّى كتابه "الحضارة الإٍسلامية في القرن الرابع الهجري".
وأخيرًا يتحدث محمد عابد الجابري عن مصطلح "الإسلام الحضاري"، بقوله: "إنه إذا كان العرب هم (مادة الإسلام) حقًا، فإن الإسلام هو روح العرب. ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوِّمًا أساسيًّا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعًا مسلمين وغير مسلمين". الإسلامية هنا هي الحضارية، وليست التعبّدية.
مع ذلك سمّى الجابري أحد كتبه "المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد".
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري