عمّان تُنكر غربانها

عمّان تُنكر غربانها

27 يونيو 2015
من عمّان (تصوير: آدم بريتي)
+ الخط -

أُنصت جيداً إلى نعيب غربانٍ انقطَع عني بانتقالي إلى منزلي الجديد منذ سنتين، فأتجه إلى النافذة لأرصدها بلا طائل، لكنها تحط في ذاكرتي أسراباً قبالة بيتي القديم قرب الجامعة الأردنية، في صورة ألفتها بسوادٍ لا تخطئه العين، وصوتٍ نافر قد يصلك في أحياء كثيرة، فلماذا تنكره عمّان ولا تعثر عليه في أدبها وصحافتها إلاّ استعارة للشؤم والخراب، وغيرها من دلالات متواترة بإحالاتها الجاهلية واليهودية، من دون أن يكون لحضوره معنى متحققاً في حياتنا اليومية!

الغراب الأسود الكبير ليس طارئاً في بلادنا، فهو يستوطن حفرة الانهدام (بامتدادها الأردني من نهر اليرموك شمالاً إلى البحر الأحمر جنوباً) من زمن بعيد، ويتواجد بجماعات تضم الواحدة عشرات -وحتى المئات منه- في غرب العاصمة وتصل حدود انتشارها إلى فلسطين المحتلة.

تطغى الأساطير والخرافات حوله مقارنة بما تصفه ديانات حديثة نسبية، مثل الإسلام والمسيحية، أو يؤكده العلم كذلك حين نعاين رمزية الغراب في ثقافتنا العربية، والأردنية منها.

فرغم استحضاره في القرآن ليعلّم لقابيل "القاتل" كيف يواري أخيه هابيل "القتيل" التراب -التوراة تشير إلى أن الشيطان لا الرب هو من أرسله فاستحق اللعن- وإنقاذه أكثر من قديس بحسب الكنسية، إلاّ أن رواية واحدة أدانته قد سادت على غيرها من الروايات. فاليهود يعتقدون أن طائرنا الأسود عصى النبي نوح لما طلب منه البحث عن أقرب يابسة لترسو سفينته، فطار ولم يعد، إذ خفق قلبه لمرأى أول أنثى وتزوجها.

العرب قبل الإسلام استبطنوا الميثولوجيا اليهودية التي تدنس هذا الكائن "العاصي"، فتطيروا منه بقولهم "أبطأ من غراب نوح" في إشارة إلى غائبٍ لا يعود، ما أصطلح عليه بـ"غراب البين" الذي عاندهم ببعده، ومنهم عنترة بن شداد عندما فارقته عبلة.

كما تشاءم منه قيس بن ذريح كلما لاح أمامه وهو يذكر معشوقته لبنى، ويقول مثل شعبي ثانٍ: "أرض لا يطير غرابها"، ويقصد هنا الأرض الخصبة التي يغيب عنها الغربان، وارتبط نعيقه بالأخبار السيئة، وعُدّ نذير الموت العاجل للناس؛ خاصة إذا حلّ قريباً من أحد المرضى.

لم يشذّ الجاحظ عن مألوف قومه، ودوّن في كتابه "الحيوان": "الغراب من لئام الطير وليس من كرامها ولا من أحرارها، ومن شأنه أكل الجيف والقمامات.. خبيث ملتوي الذمة لا عهد له"، وخلافاّ لذلك يظهر الغراب حكيماً في حكايات عديدة وردت في "كليلة ودمنة"؛ الأثر المترجم إلينا من الهندية.

جاءت المكتشفات العلمية لتصطدم بما رسخ من خزعبلات، فتصدّر بذكائه أغلب الحيوانات، بل تجاوز في بعض المهارات الحوت والدلفين والقرد. وربما استند العلماء إلى حكاية الحكيم اليوناني آيسوب عن الغراب، الذي ظل يرمي الحجارة في الجرة حتى ارتفع مستوى الماء فيها واستطاع أن يروي عطشه، فنجحوا في جعله يستعمل سلكاً ليتناول به طعاماً في قاع أنبوب، وكذلك في استخدام آلة يضع بها ما يجمعه من نفايات مقابل حصوله على طعام منها!

الطائر "الزبّال" ينعب 23 صرخة مختلفة، وتبين عند تحليلها أنها نداءاتٌ للاجتماع، وللتحذير من الخطر، أو عند تواجده في مناطق محددة، أو أنها هتاف على غراب بعينه، وتفوّق على الببغاء في قدرته على محاكاة أصوات بشرية وحيوانية، وقد ضبط متلبساً يقلّد صوت ذئب أو ثعلب مثلاً، وهو كائن اجتماعي بامتياز يقيم علاقات مع عدد كبير من الحيوانات لتبادل المنافع فيما بينهم.

سمات عدة لم تمح رمزيته في العالم القديم باستثناء حضارات الشرق الأقصى التي أنصفته إلى حدٍ كبيرٍ، ويردد أتباع البوذية أنشودة تخبر بالآتي: الحلاق هو الأذكى بين الرجال؛ وابن آوى بين الوحوش؛ والغراب أذكى الطيور؛ والراهب ذو الثوب الأبيض من بين الرهبان.

صورة تبدلت لدى شعوب استبدلت إرثها الميتافيزيقي بتفكير علمي، مقابل ثبوت نسبي لتمثلات الغراب في الثقافة العربية. ففي الأردن عنْونَ الروائي هزاع البراري روايته بـ"الغربان"، ووسمت ثلاثية الشاعر عبد الله رضوان بـ"غراب أزرق"، وكذلك فعل الروائي هاشم غرايبة في مجموعته القصصية "غراب أبيض" الموجهة للأطفال، لكنهم جميعاً تعاملوا معه ضمن دلالاته التقليدية.

وذكَر الشاعر حبيب الزيودي في إحدى قصائده قائلاً: "طار الغراب وذا المشيبُ اليوم يزحف فيك زحفاً/ أي والذي اصطفَّ الملائكُ عنده صفّاً فصفّا"، وهو تعبير متواتر يقال حين يغزو الشيب الرأس، أما الشاعر مهند ساري فيقول في قصيدة له: "كنْتُ أوّلَ ما ﭐنْحَسَرَ الماءُ عَنْهُ/ على كَتِفي كانَ حَطَّ /الغُرابُ الغريبُ.. وما عادَ /..أيْضاً، وعن كَتِفي، قَصَفَتْ غُصْنَ/ زيتونِها، في الصَّباحِ، حَمامةُ نُوْحْ"، مبقياً على بعده في الميثولوجي.

لا يلام كاتب على توظيف الأسطورة في أدبه، غير أن التساؤل يبقى مشرعاً عن غياب طائر في مدينة تبدو ناكرة لوجوده. وهنا يجدر التنويه إلى مفارقة قد تخص العمّانيين، فالغراب من أكثر الكائنات انتماءً لمكانه ووفاء لزوجته، فهو يغادر موطنه مضطراً، ولا يفارق حبيبته إلاّ عند موتها!

دلالات

المساهمون