على مذبح الرَّجُل الأبيض

على مذبح الرَّجُل الأبيض

02 يونيو 2020
+ الخط -
لا تحتاج أن تكون أميركياً أو أسود البشرة أو ملوّناً كي تشعر بأنك معنيّ بالمصير العبثي المأسويّ الذي لقيه المواطنُ الأميركي جورج فلويد (46 عاماً)، بعدما اعترضه عناصرُ الشرطة في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأميركية، وأوقفوه بتهمة استخدام ورقة نقدية مزوّرة من فئة 20 دولاراً. "العملاق اللطيف"، كما وصفه من عرفه، رضخ مستسلماً بعد تكبيل يديه، فكان أن أُلقي أرضاً، حيث جثا عليه ثلاثةٌ من الشرطيين الأربع، فيما وضع الضابط المدعو ديريك تشوفين ركبته على عنقه، وضغط عليه، خلال ثماني دقائق و46 ثانية، حدَّ الاختناق.
المشهدُ ولا ريب مخيفٌ، لا يُحتمل، وحشرجةُ الضحيّة المُستغيثة من أجل حياتها المنسحبة منها مع افتقادها إمكانية التنفّس ستمثُل طويلاً في أذهان من شاهدوا شريطَ الفيديو هذا، وقد رآه معظمُ سكّان المعمورة، باعثاً في النفوس والأذهان صوراً مألوفة ومستدامة لقسوة "الرجل الأبيض" وقمعه الآخر الملوّن، سواء كان من أصول أفريقية، هندية حمراء، أزتيكية، فلسطينية، أو سواها من أصول الشعوب التي تعرّضت للاستعباد والاضطهاد والإبادة. والأبيض هنا هو ممارسة وإيديولوجيا وعنف وسياسة تمييز عنصري على المستويات، الإنسانيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، بغضّ النظر عن أماكن نشأته، إذ يكون "أبيض" أيضاً من تمتلئ سجونُه بالمظاليم وسجناء الرأي، ومن يكمّ الأفواه ويصادر القرار ويسرق ثروات وطنه ويسلب الأرض ويعذّب ويبيد ويقمع ويقول بتفوّق عِرقٍ أو طبقة أو مذهبٍ أو جنسٍ أو دينٍ على آخر. أجل، قد يكون الأبيضُ عربياً أو آسيوياً، بقدر ما هو أميركيّ أو أوروبيّ.
والحال ليست هي ركبة ضابط الشرطة ديريك تشوفين التي جثت على عنق جورج فلويد حدَّ القتل، بل هي قرونٌ ثقيلةٌ وتاريخٌ طويل من الاستعباد والإبادة والتمييز العنصري، خلناها قد ولّت إلى غير رجعة، أقلّه من حيث الاعتراف ببربريّتها وضرورة الانقلاب عليها والمناداة بضرورة مقاومتها ومحاربتها، خصوصاً مع انتخاب رجل أسود ومسلم هو باراك حسين أوباما جونيور، على رأس أكبر قوّة في العالم. إلا أن مجيء دونالد ترامب من بعده، بكل ما يمثّله من صلفٍ وجهلٍ وذكورية وتمجيد لمنطق القوة والعنف، وهي بعض القيم التي قام عليها تاريخُ الرجل الأبيض، إنما هو أشبه باعتذارٍ عن "زلّة قدم" أظهرت البطلَ الكاوبوي في موقف انكفاءٍ وضَعفٍ. هكذا كسب دونالد ترامب معركةَ الرئاسة، بكلّ شُقرته وصُفرته وبياضه وأمواله وغبائه وعدائيّته، مكذّباً ذلك الأمل الواهن الذي مثّله بالنسبة إلى أميركا والعالم، تبوّءُ أوباما سدّة الرئاسة على فترة ولايتين اثنتين.
عندما جثا ديريك تشوفين على عنق جورج فلويد، غير عابئٍ باستغاثاته أو بتوسّلات الشهود ومطالباتهم إياه بضرورة تحرير الرجل المسكين المختنق، كان مدركاً تماماً خطورة الأمر وعواقبه، وتجاوزه قوانين كيفية التعامل مع مَن يوقَفون. بيد أن ذلك لم يثنه عن الاستمرار في فعلته دقيقتين اثنتين إضافيتين، بعدما فقد الموقوفُ وعيه، أو عن رفع وجهه وتثبيت نظره في أعين الحاضرين وفي عدسات الهواتف الذكية الموجّهة إليه. كان تشوفين واعياً عواقبَ هذا كلّه، وراغباً فيه ومستدعياً له، ذلك أنه أراد أن يغتنم فرصةً ذهبية، كي يثبت لربّه المطلق وسيّده أنه جديرٌ بخدمته، أهلٌ لثقته.
أجل، لقد سعى ضابطُ الشرطة، كأي إنسانٍ تقيّ ومؤمنٍ بتفوّق العِرق الأبيض وأفضليته، إلى تقديم أُضحيته إلى ربّه وسيّده، متحدّياً العالم بأسره إن وقف بوجهه. أمّا العالمُ، فلم ولن يقف في وجهه، وأمّا الأُضحية فهي هذا العملاق "الحقير" الأسود، وأما الربّ فهو السيّد ترامب، مجسّداً ألقَ البياض في ذروة مجده.
أسود، من أصل لاتينيّ، عربيّ، مسلم، مهاجِر، عاطل من العمل، فقير، مريض، معارض، ناشط، معوّق، أقلّوي... إلخ، كلُّها هدايا وأضاحٍ ممكنة على مذبح "الرجل الأبيض"، هذا فيما يُرمى ديريك تشوفين في حفرة الأُسُود كما كانوا يفعلون بالمسيحيين الأوائل، وتُنكره زوجتُه التي طلبت الطلاق منه عبر محاميها، قبل صياح الديك، ثلاثاً!
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"