عاملات المناولة في تونس أنامل أنهكتها المعاناة

عاملات المناولة في تونس أنامل أنهكتها المعاناة

25 فبراير 2014
عاملات المناولة في تونس أنامل أنهكتها المعاناة
+ الخط -

عندما تستقلّ إحدى عربات المترو أو القطار أو الحافلة في تونس، كثيراً ما تلمح إحدى العاملات اللاّتي ينظّفن غبار ومخلّفات المحطّات. هي لم تخرج إلى العمل في القمامة بحثاً عن التحرّر الاجتماعي، أو إثبات الذّات بين الأتربة والغبار، بل هي الحاجة والخصاصة وحدها التي أجبرتها على الأعمال الشاقة.

خلال دقائق انتظار المترو، ترمق إحداهن وهي تلتقط القمامة وتجمعها في كيس بلاستيكي، تنحني حيناً لتلتقط ما يرميه البعض من بقايا الأكل والسجائر، وتقف أحياناً لتنفض الأتربة عن المقاعد المخصصة لرواد المترو أو الحافلة، تقترب منها للحديث عن حالتها الاجتماعية والظروف التي دفعتها إلى مثل هذا العمل الشاق يومياً، ترفع عيناها نحوك وتسألك ما الذي تريده؟.

سألتها عن أسباب عملها في مثل هذا العمل الشاق، فانحنت على المكنسة لتريح جسدها المنهك وقالت: "اسمي فاطمة، وأنا في العقد الخمسين من عمري وزوجي مريض ولا يعمل، يحصل فقط على مئة دينار كمنحة من وزارة الشؤون الاجتماعية، تلك المنحة المخصصة للعائلات المعوزة. لكنّها زهيدة جداً ولا توفّر كل مصاريف العائلة. أبنائي الثلاثة عاطلون عن العمل وأكبرهم يبلغ من العمر الثلاثين، ولم أجد من سبيل سوى خروجي للعمل لتوفير قوت يومهم".

تنحني لتلتقط إحدى الأوراق المرمية هناك بيدين خشنتين وأصابع مشقّقة، ثم تواصل حديثها: "كنت أعمل كمنظفة في إحدى المدارس بالعاصمة، لكنني خرجت للعمل في محطات المترو لأنّ الأجر أفضل. ومنذ قرابة الأربع سنوات وأنا أشتغل دون ترسيم أو تغطية اجتماعية، وما زلت أنتظر دوري، ربما يشملني قرار الإدماج في العمل العمومي ويتحسن دخلي الشهري".

كثيرات هنّ التونسيات اللاّتي خرجن لتوفير أبسط ضروريات الحياة، وعملن مقابل أجر زهيد قد لا يكفي لسد حاجياتهم الأساسية. لكلّ منهن مأساتها، ولئن اختلفت تفاصيل معاناة كل امرأة، فإن الحرمان والخصاصة يجمعهن.

أولئك النسوة يُعرفن بعاملات الحظائر والمناولة، وهنّ اخترن العمل في تنظيف المعاهد والمدارس ومحطّات المترو والقطار، أو العمل في الفضاءات التجارية والحدائق العمومية أو حتى في الفلاحة، ويتم انتدابهن من البلديات والمجالس الجهوية في كل جهة، أو من المؤسسات العمومية والخاصة على حد السواء.

يعمل معظمهن دون تعيين أو تغطية اجتماعية وبأجر زهيد يتراوح بين مئتي دينار وأربعمئة دينار شهرياً. لتظل وضعية الآلاف منهن في دائرة التهميش واللامبالاة.

تراهُنّ في المستشفيات، وفي الفضاءات التجارية وعلى حافة الطريق، يقدمون خدمات متنوعة دون أن يتمتعوا بأبسط الحقوق التي تضمن لهنّ العيش الكريم، يضاف إلى ذلك تعثّر حلول تسوية وضعيتهن وانتدابهن في المؤسسات العمومية والخاصة.

وبرزت المناولة في تونس منذ سنوات، ويُقصد بها مؤسسات العمل الوقتي، والتي نصّت عليها مجلة الشغل في ثلاثة فصول متتالية، ودورها الأساسي هو التوسّط للتشغيل في نشاط معيّن كالتنظيف أو الحراسة، كما تهدف إلى الجمع بين الباحثين عن الشّغل والمؤجرين.

ولكن هذه المؤسسات الوسطية أصبحت مقتصرة على الجانب التجاري من خلال إبرام العقود مع المؤسسة المشغّلة دون احترام أبسط حقوق العاملين، مثل التغطية الاجتماعية وتسوية الأجور والعطل.

خلال حديثنا مع بعض أولئك النّسوة، غطى معظمهن وجوههن خوفاً من كاميرا التصوير التي قد تقضي على آخر الآمال في التعيين، كما فعلت "لمياء"، خشية أن يتم طردها من عملها.

تحدثنا لمياء عن حياتها في العمل مشيرة إلى أنّها عملت في عدّة مؤسسات عمومية بينها مستشفيات، إلا أنّها انتقلت منذ ثلاث سنوات إلى العمل في محطة المترو للتنظيف. ومع مشرق الشمس كل يوم، تحمل أدواتها البسيطة مرتدية سترة زرقاء رثة، وتنتقل إلى محطّة مترو الدندان لتنظيفها قبل أن تعمّ الحركة المكان. تعود لمياء بعد ذلك إلى منزلها القريب من المنطقة لتحضير فطور الصباح لأبنائها الأربعة وإيصالهم إلى المدرسة.

رحلة يومية تقضيها بين واجباتها المنزلية والتزامات عملها هناك، زوجها يعمل في أحد المصانع في العاصمة بدخل بسيط لا يكفي حتى لأجرة البيت. كثيراً ما دقت باب الولاية مطالبة بالتعيين وبتحسين دخلها الشهري في ظل ارتفاع تكاليف حاجيات أبنائها وغلاء المعيشة في تونس.

عائشة لا يختلف واقعها المعيشي عن زميلاتها من عاملات المناولة، فهي أمّ لثلاث بنات صغيرات، أكبرهن لم يتجاوز سنها الثالثة عشر، تعمل كمنظفة في إحدى الفضاءات التجارية منذ قرابة الأربع سنوات لكنها تتقاضى أجراً زهيداً لا يتجاوز الـ300 دينار شهرياً.

تقول عائشة إنّها تضطر للاستدانة، عادة، لأنّ زوجها عامل يومي في السوق المركزية للخضر. وقد شمل التعيين بعضاً من زميلاتها إلا أنّها ما زالت تنتظر دورها المؤجّل.

في وزارة الشؤون الاجتماعية، حيث تتم معالجة كل ما يخص الأوضاع الاجتماعية للشعب واستحقاقات الفئات الضّعيفة والمفاوضات الاجتماعيّة وعلاقة السّلطة بالنّقابات العماليّة، دارت عدة مفاوضات بين الوزارة واتحاد الشغل، أكبر نقابة عمالية في تونس. إذ طفت، منذ الأشهر الأولى للثورة، مشكلة مزمنة ابتدعها النظام السابق، ألا وهي المناولة، وذلك بعد الاعتصام المتكرر وفي كل المجالات لضحاياها، فانصبّت سهام النقد والتذمّر من اعتصام هؤلاء العمال الذين كانوا ضحايا جشع رجال الأعمال، وخاصة أنّ المناولة تغلغلت في جميع القطاعات العامة والخاصة على حد السواء.

إثر تلك الاعتصامات المتكررة والتشنج في الشوارع وأمام المؤسسات العمومية والخاصة على حد السواء، مقابل تعدد المفاوضات بين الطرفين الحكومي والنقابي، تم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 توقيع اتفاق إلغاء المناولة في القطاع العمومي بين الحكومة ممثلة في وزارة الشؤون الاجتماعية والاتحاد العام التونسي للشغل، وهو اتفاق يقضي بتسوية وضعية ستة آلاف عامل.

وينطبق هذا الاتفاق على عمال المناولة للحراسة والتنظيف في المؤسسات العمومية، التي لا تكتسي صبغة إدارية، وفي المنشآت العمومية المباشرين بمقتضى عقود شغل والمؤجرين حسب الكلفة الحقيقية للمناولة، في إطار تطبيق اتفاق وقّع في أبريل/ نيسان 2011، يقضي بإلغاء العمل بالمناولة في القطاع العمومي.
وأبرز وزير الشؤون الاجتماعية السابق، خليل الزاوية، أهمية إبرام هذا الاتفاق الذي سيمكّن العاملين عن طريق المناولة بالمنشآت والمؤسسات العمومية والدواوين من الاندماج في مؤسسات تشغيلهم وتحسين مستوى تأجيرهم، مبيّناً أن ذلك يعدّ مكسباً لهذه الشريحة من العمال التي لطالما عانت التهميش.

وفي حديث لـ"العربي الجديد"، أوضح كمال سعد، الأمين العام المساعد المكلف بالدواوين والمنشآت في الاتحاد العام التونسي للشغل، أنّ الاتفاق الذي أتى بعد مفاوضات عدة قد أتاح لعمال المناولة التمتع بعدد من الامتيازات المهنية والمالية على غرار الإدماج بالمؤسسة المشغّلة والترسيم وتحسين المرتب الشهري الإجمالي وتوفير منحة الشهر الثالث عشر ومنحة الإنتاج.

من جانبها، أوضحت الكاتبة العامة لجامعة المهن والخدمات، حياة الطرابلسي، أنّ هذا الاتفاق مثّل نقلة هامّة في حياة العديد من العمال المهمشين، إذ يضمن تحقيق كرامة العامل وتكريس مبدأ العدالة في التأجير.

لكنها أشارت، في المقابل، إلى أنّ إلغاء قطاع المناولة في القطاع العام لم تلتزم به سوى 2 في المئة من المؤسسات فقط، أما باقي هذه المؤسسات فهي تسعى إلى الالتفاف على محضر الاتفاقية. وتضيف أن معظم عمال وعاملات المناولة في القطاع العام لم تتم تسوية أوضاعهم، مؤكدة ضرورة التزام المؤسسات بهذا الاتفاق بكل مصداقية وشفافية من خلال عقود عمل تكفل لعمال المناولة التعيين بعيداً من سياسة الإقصاء.

وتتعلّل معظم المؤسسات بارتفاع التكاليف، ما دفع ببعض الشركات، مثل اتصالات تونس والشركة التونسية للكهرباء والغاز والبريد التونسي، إلى عدم الالتزام بمحضر الاتفاقية، الأمر الذي أدى إلى تعثّر إجراءات انتداب أعوان وعمال المناولة فيها.

المساهمون