عابرون ومقيمٌ واحد

عابرون ومقيمٌ واحد

07 سبتمبر 2017
باسكال مارتين تايو/ الكاميرون
+ الخط -

أنا كاتب تسلية ولا أشيّد أمجادي بالكتابة. فقط أنا مشدود إلى فتاةٍ تنمو في مرآة الصباح مثل صفصافة وإلى صديقتها التي تداعب شعرها الأشقر بمشط بأسنانٍ ناقصة تحت شمس العاشرة، وإلى عجوزٍ تهشّ الذباب والأشباح بعصا يابسة. إلى أبخرة قهوةٍ مطحونة بوتدٍ من نحاس.

وإلى حصير من الدوم بمربّعات شكولاته حمراء حيث جدّتي والوشم الأزرق وحيث جدّي ورَزّة بأصفارٍ بيضاء، فيما أنا الجالس بالمخيّلة تحت شجرة التين أقلم أظافري بمقصّ صغيرٍ وأحلم بعصفور في اليد. وأتسكّع على الدوام في دروبٍ ضيّقة حيث الجميلات يعصرن النهود الصغيرة في نوافذ الرابعة. وأقف بجثتي على حافة الوادي مثل لوركا حيث النساء يغسلن الصوف بهراوات العرعار، والصغار يفتّشون عن ديدان الصيد بين أحجارٍ كبيرة.

أنا المتكوّم فوق هضبة العائلة حيث قامات الرجال والنساء تتكسّر على إيقاع بنادير ساخنةٍ في صفّ طويل بينما العرائس، بخدود المشمش وأرجل مخضّبة بحنّاء العطارين، يفتلن شوارب الليل بأمشاط الخجل. أنا الكاتب بالقهوة بدل الفطرة والذي نجا من الغرق في فناجين الموت لمرّات عديدة.

مرّة حين وجدت نفسي مرميّاً وسط رائحة زعتر الجنوب بعدما انقلبت بنا الشاحنة التي كانت تقلّنا إلى العمل ومات صديقي متكئاً على بندول الصباح. ومات إمام مسجد القرية بعدما نطحته قنينة غاز. وتكسّر عنق السائق، فيما نجوتُ أنا بجرحٍ غائر في كفّي الأيمن وجلست أبتسم كمناضل طبقي يحبّ الخبز والشعارات الساخنة والكراسي الخلفية.

ومرّة في بوردو جنوب فرنسا حين انقلبت بنا سيّارة صغيرة ونحن في الطريق إلى حفلة عيد ميلاد بلهاء. وذات طفولةٍ حين سقطت حجرة كبيرة من سقف البيت مخترقة ألواح القصدير المتآكلة. كنّا، أنا وإخوتي، ننام في صفّ طويل كقافلة نمل مدثرين بملاءةٍ مهترئة واحدة وحصير الغرفة المحدودب ببقايا حساءٍ قديم وليل مدجّج بالأرياح والمطر الأعمى حين تدحرجت الحجرة من الأعلى واستقرّت فوق بطني العامرة بالعدس. تألّمتُ وجلست فوق كرسيّ الليل أحلم لسنوات بسقفٍ من إسمنت هروباً من الأحجار وأصابع الموت المتدليّة من السقف مثل ثريّا بمصابيح ملوّنة.

نجوت ومات مكاني رجال ونساء بعدد النجوم. ذهبوا جميعاً إلى مقبرة المدينة محمولين فوق ألواح خشبيّة عن طيب خاطر ودون مقاومة تذكر حيث حفّار القبور ينتظرهم في الباب الشمالي بمعوله الصدئ ووجهه البشوش.

مات أبي ذات مايو قائظ وتركني أجرّ عربة ثقيلة بعجلات مفشوشة حيث أمّي تجلس في الكرسيّ الأمامي كأميرة أندلسيّة قابضة على ذيل الحصان الذي ليس سوى أنا. فيما تجلس أختي الصغرى بسروال دجينز أزرق في الكرسيّ الخلفي الذي ليس سوى ظهري العامرة ببتورٍ حمراء من فرط قسوة الجرّ وطول الطريق حدّ أن تورّمت قدماي وترهّل حذائي. واصلتُ الصعود والهبوط لدرجة أعود إلى الوراء وأفكّر كيف قضيتُ وقتاً طويلاً من طفولتي أذهب إلى الحمّام وأمرّغ أعضائي بالصابون وأحلم أن أصبح شخصاً مهماً في المستقبل.

في كل مرّة أضع أصبعي على مهنةٍ أسحبها برفقٍ وأضعها على مهنة أخرى. أذكر أنّ الصحافة هي المهنة الوحيدة التي وضعت عليها أصبعي أكثر من مرّة. وعندما تعبت فتحتُ الخريطة ووضعت رجلي على أرض قرية نائية بالجنوب حيث مدرسة من دون أبواب ولا نوافذ تنتظر وصول مدرّسين بؤساء ومفلسين في الغالب.

المأساة تبدأ عندما تحلم أن تصبح شخصاً يفتح أزرار الصباح على سلّة فواكه وكومة جرائد وإبريق قهوة ساخن. وإذا بك تجد نفسك تحت سقفٍ واحد مع اللصوص والمهرّبين وفي أحسن الأحوال صديقاً للمجانين والحمقى والبراري والذئاب وأعطاب العائلة.
ماتت، أيضاً، صديقتي الجميلة في غفلة السائق السكران حين زاغت الحافلة عن الطريق وانحدرت إلى الأسفل ككرة تنس صغيرة. وبقيت لسنوات طوال ألهج باسمها وأرعى وروداً حمراء بقصائد حزينة أرسلها إلى الجرائد حيث رؤساء الصفحات والملاحق الثقافية يرسلونها بدورهم إلى سلّة المهملات نكاية بالحزن ومكتفين بنشر قصائد أصدقائهم وزوجاتهم وصديقات زوجاتهم.

مات صديقي الشاعر المطرود من الوظيفة بسبب حجر عثرة متأثراً بجرحٍ غائر بعدما انغرست في بطنه قنينة نبيذ رخيصة وهو في طريقه إلى بيت الجدّة في الضاحية. وماتت معه أسراره الأخيرة التي كان يدوّنها في دفترٍ متآكل الأطراف. أذكر في كلّ مرة ألتقيه كان يشدّني من كتفي ويقول لي فيما يشبه البوح أنّه سيصدر كتاباً مهمّاً وأنّه سيفوز بجائزة كبيرة ويجني أموالاً كثيرة تسمح له بالسفر طوال الوقت وشُرب القهوة مع أناسٍ مهمّين بمحطات العالم. كنتُ أعرف أنه لا يفعل شيئاً سوى أنّه يتلف صفاء وجهه في كؤوس كثيرة متنقلاً بين غرف الأصدقاء وفصول الرواية الحزينة.

ماتت، أيضاً، جارتنا العزيزة بسبب سرطان الثدي تاركة الأولاد يتحسّسون أبراج اليتم في حدائق البلديّة، وتاركة في قميص الذاكرة أبخرة قهوة سوداء وهدايا الطفولة. مات في الذاكرة أصدقاء بعدد الأزرار مخنوقين في عربات الحزن وحياة بئيسة. مات ساعي البريد وسط غابة الإنترنت الكثيفة متأبطاً محفظته الصفراء وماتت معه رسائلي القديمة التي كتبتها ذات بلادة. ماتت قصائدي الأولى بسبب مشاكل صغيرة كارتجاج خفيفٍ في المخيّلة أو بسبب سوء التغذية والألم الشخصي.

ماتوا بالتواتر وبالتوازي وبقيتُ وحيداً أتشمّم رائحة الموت المتروكة في قصعة الجيران. رائحة أشبه بأنفاس البارود المرشوشة في سماوات بعيدةٍ. ومثل رائحة التراب اللاصق في جنبات دلوٍ صاعد للتو من البئر. كرائحة الجوارب العطنة المرميّة في أركان غرفتي ورائحة آباط البدويات غير الحليقة. مثل رائحة جثثٍ كلابٍ وأبقار مرميّة في شعاب وعرة. مثلما للموت ألوان بعدد بالونات أعياد ميلاد الصغار وألوان الحضارة النائمة في درس التاريخ القديم وألوان الألم المرسوم فوق جدران السجون والمعتقلات البعيدة.

أخمّن أن الموت رجل عطن وقليل الاستحمام ولا يستعمل المشط حتّى. يرتمي بجثته الثخينة وحذائه المطاطي فوق أسرّة المرضى والمدخنين وغرباء الأوطان والمنبوذين وسواعد الجنود كما اتفق ودونما مراسيم تسبق الكرنفال الحزين. لكنه جدّي للغاية وينتعل حذاءه باكراً ويخرج للعمل كأيّ موظف عربي ليست لديه مشكلة مع الطقس ولا مع الزوجة. أغراضه قماط أبيض وتمتمات فقيهٍ فيما شهيته للأكل مفتوحة على مدار الزمن الذي يركض بأنفاس عدّاء أثيوبي.



* كاتب من المغرب

دلالات

المساهمون