طريق الحرير .. إلى عالم جديد

طريق الحرير .. إلى عالم جديد

15 ابريل 2020
+ الخط -
يتفق اليوم أن تتشابك القضايا والمخاوف والأخطار مع تطلعاتٍ لتأسيس نظام عالمي جديد، يقوم على هدم نظام عالمي قديم، تبوأت الولايات المتحدة الأميركية تأسيسه وزعامته منذ قرن ونيف، وتسعى الصين، باعتبارها قوة اقتصادية عالمية جديدة، إلى السيطرة عليه، أو على الأصح مشاركة السيطرة عليه مع الولايات المتحدة، أو هدمه بالكامل وبناء نظام عالمي جديد، بعد أن توفر لها أن تصبح القوة الاقتصادية المؤهلة لأن تفعل. وهي بدأت بالفعل، تحت ستار "مشروع الحزام والطريق" الذي ترأسه الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، ودعت دولا كثيرة للمشاركة فيه، وأطلقته في مؤتمر دولي عقد في مايو/ أيار 2017، في بكين (أو بيجين) لترويج المشروع الذي يستعيد "طريق الحرير" الذي انطلق في القرن الخامس قبل الميلاد في عهد أسرة هان طريقا يسهل التبادل التجاري مع الهند والشرق الأوسط، وصولا إلى أوروبا وأفريقيا، وبيع منتجاتها في تلك الأسواق، وشراء التوابل والذهب ومنتجات تلك الدول مما لا تملكه أو تنتجه الصين. وسمّي "طريق الحرير"، لأن الحرير الصيني كان في مقدمة المنتجات التي سعت إلى تسويقها آنذاك، وأكثرها شهرة وجودة، فضلا عن الخزف الصيني وغيره من المنتجات.
كان "طريق الحرير" شبكة من الطرق البرية (وأحيانا البحرية)، تطورت مع الوقت، وساهمت أيضا في التبادل الفكري والثقافي بين الدول، وأثّرت وتأثرت وأثْرت الحضارة الإنسانية في قارّات العالم القديم، ما لبث أن انكفأت الصين على نفسها لعوامل عديدة ذاتية، سياسية واقتصادية، أضعفتها، وجعلتها تتقوقع على نفسها رويدا رويدا مثل "شرنقة الحرير"، وصعدت في ما بعد، بصمت أيضا، إلى أن تحولت اليوم إلى ثاني قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة، وتسعى إلى أن تكون الأولى. ولهذا "طريق الحرير الجديد" الذي يحاول الصينيون تعبيده، عبر تسميته "مشروع الحزام والطريق"، ليس"الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل" التي بدأت مع 
الزعيم الصيني الشيوعي، ماوتسي تونغ، بطرد المستعمرين اليابانيين، والقضاء على طبقة الكومينتانغ الإقطاعية في الخمسينات، وتحرير الفلاحين من قبضتها، وبناء التعاونيات الفلاحية وتحرير العمال والقضاء على النظام الطبقي. واستمرت هذه السياسة بعد وفاته، وإنْ برؤى اقتصادية وثقافية جديدة، حرفت المسار الشيوعي عن أهدافه، وجعلت من الصين دولة رأسمالية رويدا رويدا، مع استمرار إرث ماوتسي تونغ وبصماته في المجتمع الصيني، فضلا عن بقايا راسخة من كونفوشيوس وإرث الديانات والمعتقدات القديمة. وأسست هذه كلها مجتمعة صينا هجينة، سُمح فيها بصعود الرأسمالية، تحت ستار االحزب الشيوعي الصيني الذي لم يبق فيه من "الشيوعية" إلا كلام أجوف، لا معنى له.
هذه "الصين الهجينة" التي تكونت بصمت، ربما حتى في عهد ماوتسي تونغ نفسه، وفي زمن الثورة الثقافية والمواجهات مع عصابة الأربعة التي سبقت وفاته في العام 1976 بقليل، استقت تطلعاتها في مشروع "الحزام والطريق" من "طريق الحرير القديم"، لكي تستكمل مسيرتها الرأسمالية الهجينة، مع هذا الكم الهائل من فائض الإنتاج وفائض الثراء، ولتتخلص من شرنقتها نهائيا، وتصعد بأجنحة تطلعاتها إلى قمة هذا العالم، وتحت غطاء إنساني يروجه المشروع الجديد، يتحدث عن مزاعم "قيم العدل والتعاون ومشاركة الثروة وبناء السلم العالمي"، عبر شبكة من الطرق البرية والبحرية، أوسع نطاقا من طريق الحرير القديم. وإذ تقدّم الصين المنح والقروض لمساعدة الدول النامية أو الفقيرة أو المتعثرة اقتصاديا، كأفريقيا واليونان، وتبدي حسن نياتها، فإنها لا تخجل من الوقوف مع النظام السوري منذ بدايات الثورة، واستخدام حق النقض (الفيتو) ست مرات في مجلس الأمن لمصلحته، والمنطقة العربية حجر أساس في تعبيد" طريق الحرير الجديد"، بسبب حاجة الصين الماسّة للنفط والغاز، وهو ما يعني حاجتها لدول مستقرّة، لا يهم إن كانت نظمها استبدادية أم ديمقراطية أم غير ذلك. والصين بذلك، برأسماليتها وثقافتها الهجينة في السياسة، كما في الاقتصاد، لا تختلف براغماتيتها عن براغماتية الولايات المتحدة، سوى في أن العقل الصيني "أكثر غموضا" واللسان الصيني أكثر صمتا وأقل صخبا وعجرفة. ولكن الصين تلك بدأت بالفعل تنفيذ تطلعاتها الإمبريالية وحربها الاقتصادية، مع ما تحمله هذه التطلعات من مظالم جديدة للدول والشعوب، شأنها شأن أية قوة رأسمالية إمبريالية صاعدة.
ما لم تحسب الصين حسابه هو فيروس كورونا الذي يساهم في تراجع مشروع الحزام والطريق، لما أحدثه من تداعيات اقتصادية واجتماعية، وربما فكرية وثقافية، فقد يتسبب بضرب أكبر اقتصاديات العالم، في مقدمتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والنمور الآسيوية، سيما الهند وكوريا الجنوبية. ولن تنجو من أضراره ومآسيه الدول الفقيرة وشعوبها، وكذا الأجيال المقبلة. ومن الصعب الآن توقع ما سيحصل، وإلى ما سيتنهي إليه الوباء، وإن بدا اتجاه هذه التداعيات يظهر تباعا. وبالتأكيد، يطاول التهديد الجميع، فقراء وأغنياء، الدول الصغيرة والضعيفة، كما الكبيرة والقوية، سواء على المستوى المحلي داخل مجتمعاتها أو على المستوى الخارجي. وعلى الرغم من كل هذه العزلة التي يفرضها الوباء على البشرية، سيحتاج البشر للتضامن من أجل تخطي هذا الوباء، وسلة الأزمات والمخاطر التي يحملها، وفي مقدمها المجاعة الشاملة والفقر والإفلاس، والذي يحمل أيضا الفرصة لوقفة تاريخية وجودية للمراجعة والتغيير، سيما لكل الشعوب والأفراد والمجتمعات الذين سحقوا غيرهم أو انسحقوا في سبيل جشعٍ لم يُعرف له نظير في التاريخ، استهلك البشر والموارد الطبيعية وتسبب بسقوط ملايين الضحايا، تسببت بها الحروب والأمراض والكراهية والعنصرية والتوحش الرأسمالي الذي لا يعرف الشبع، وحمّى الاستهلاك التي غيبت الإنسان عن نفسه وعن أخيه وأخته وأمه وأبيه وجاره وشركائه في الإنسانية، في متع ماديةٍ، لا تسمن أو تغني من جوع أو مرض أو طمأنينة العيش، حتى وإن كانت على حساب الآخر.
أمامنا اليوم "فرصة" ذهبية للمراجعة والتضامن والمحبة، يضعها أمامنا فيروس كورونا، إنْ لم 
نلتقطها جيدا، سيما نحن العرب، فلربما نواجه خطر الاندثار. نحتاج أنسنة عالمنا والصمود في وجه نزعات التسلط والهيمنة والحروب التي تخطط لها وما تزال قوى الظلام العالمية الراسخة، أو تلك التي تسعى إلى أن تمدّ سلطانها على مصادر عيشنا وتعبث بالكوكب. أولويتنا البيئة ثم البيئة ثم البيئة، وما تحمله الخطايا التي ارتكبت بحقها من أضرار تهدّد وستهدد عن قريب مصير البشرية برمتها. ولكن بالتوازي أيضا في مواجهة كل قضايا الشعوب مجتمعين، في مقدمها قضية فلسطين، كونها معيارا أساسيا في تحديد معالم مستقبل البشرية، لما حملته من عذاباتٍ لشعب فلسطين، وتهدد تداعياتها العدالة الكونية والسلم العالمي، ولما يتسبب به الكيان الصهيوني العنصري، ومن ورائه الحركة الصهيونية وأخطبوطها العالمي، من تأثير مدمّر على النظام الاقتصادي العالمي، كما الإعلام ومنظومة حقوق الإنسان العالمية، لتجاهلها القرارات الدولية ذات الصلة، سيما إن تمكنت الإنسانية من وعي الترابط بين القضايا الكونية وحقيقة أن أي مساسٍ بحقوق شعب هو مساس بحقوق البشرية برمتها، وهذا ما يجب مراجعته لتصويب المسار نحو عالمٍ جديد، لا تحكمه الولايات المتحدة أو الصين أو أوروبا، أو أيٌّ كان ممن لديه نوايا توسعية استعمارية جديدة، مهما تزينت بالحرير أو الذهب أو الدين، فيما هي تخطط لاستعادة أمجاد إمبراطوريات اندثرت، سعيا إلى التوسع ونهب الشعوب المجاورة والبعيدة.
آن الأوان لكي تقول الشعوب كافة كلمتها، فحكمة هذا الزمن (زمن كورونا) أنك مسؤول/ة حين تحمي نفسك أن تحمي غيرك، وإلا فلا نجاة لأي منا. والتضامن الكوني هو طريق خلاصنا. لا مفر. الواحد للكل والكل للواحد. لا مفر من التضامن وفتح صفحة جديدة لعالم يئن تحت وطأة المظالم والجشع والنكبات. لربما كنا بحاجة لهذا الفيروس الذي يهدّد "وجودنا" جميعا، كي نستيقظ ونبدأ من جديد، ونمنح لمفهوم الرخاء معنىً حقيقيا، يمتد ليشمل كل من يعيش في هذا الكوكب الجميل، لنعبّد في "زمن كورونا" طريق الحرير الحقيقي، بعد عزلةٍ لا نعرف كم ستطول. ولكننا حين نتحرّر من الشرنقة، ربما نبدأ مد خيوط من حرير لنسج عالم جديد، ولتكن كل طرقاتنا وطرقنا حريرا فرق حرير.