أكبر خشية للآباء المؤسسين للنظام الفيدرالي الأميركي تمثلت بوصول رئيس بميول استبدادية إلى الحكم عبر تصويت شعبي. هذه الفكرة تعزّزت مع تبلور التجربة الأميركية التي ساعدت النخب في واشنطن على تصوير أميركا كشعلة حرية بعد مراحل صعود النازية والفاشية وما تلاها من حرب باردة. وهذه الصورة المثالية تتعرض اليوم لتشويه أكثر من أي وقت مضى في مرحلة مفصلية من توسّع رقعة الاستبداد في النظام العالمي.
عوارض الاستبداد الأميركي الذي تمثّله رئاسة دونالد ترامب وصلت إلى ذروتها خلال الأيام الماضية، عبر نزعة انتقامية تحاكي سلوك حاكم نجا من محاولة انقلاب فاشلة. بعد سقوط خيار عزله في الكونغرس، قرر ترامب الثأر من المشاركين في محاولة الانقلاب عليه. طرد من الإدارة كل مسؤول تعاون مع تحقيق الكونغرس، وهدر الحياة السياسية لمن صوّت ضده، وجعل وزارة العدل أداة تصفية حسابات مع منافسيه، وتدخّل في القضاء لتخفيف الأحكام على حلفائه. هذا الإجهاز على حكم القانون يعكس ديمقراطية متأزمة في زمن ترامب، الذي يواجه لحسن حظه معارضة داخلية يُحسد عليها.
شعلة الحرية هذه أضحت شعلة استبداد. الرئيس الأميركي أصبح نموذجاً في ازدراء الإعلام، وحكم الأصهرة، وعسكرة السياسة، وتعميم الفساد بمستويات من الشفافية لم نعتدها في البيت الأبيض. إن من يدافع عن الحزبية والفساد والغوغائية في العالم يعطي ترامب كنموذج لممارسات أي نظام سياسي، حتى لو كان ديمقراطياً. يبني ترامب جسور تواطؤ ضمني مع أنظمة تشكل موجة جديدة من اتجاهات الاستبداد العالمي كما رأينا في تأييد الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي العلني لإعادة انتخابه رئيساً.
الاهتمام العربي بالانتخابات الأميركية لا ينبغي أن يقتصر على انعكاساتها على السياسة الخارجية، هذا تفصيل في معركة مفتوحة على هوية هذا النظام وقيمه وتوزيع ثرواته. النموذج الأميركي كان وسيبقى في قدرة النظام على ضمان استمرارية الحكم في مراحل انتقال السلطة، وعلى استيعاب تنوّع واختلاف الأفراد والمؤسسات والولايات. ترامب ليس التحدي الأول الذي يواجه هذا النظام الفيدرالي، بل هو نتاج عيوبه التي تراكمت واستولدت استقطاباً سياسياً غير مسبوق يبرر اليوم تصدير شعار "أنا الدولة والدولة أنا".