شذراتٌ في أصل القهوة*

شذراتٌ في أصل القهوة*

16 ديسمبر 2014
+ الخط -
إن للقهوة كما لسائر المحصولات، أحاديث غريبة وأقاصيصَ عجيبة يتناقلها الجمهور. فمن قائلٍ إنّ داود النبي هو أوّل من وقف على خواصها، وربّ زاعمٍ روى أنها أقدم منه عهدًا. وممّا يخبّر أنّ رئيس دير في جزيرة العرب، خرج يومًا إلى الصحراء، فرأى قطيعًا من المعزى كان يرعى بعضها أغصان شجرة، فتنشط بأكلها وتمرح.

وكانت الشجرة شجرة القهوة، فاستدلّ بذلك على ما لحبوبها من القوّة. وقد ذهب مرهج بن نمرون الماروني في كتاب طبعه باللاتينية في رومية العظمى سنة 1661، إلى أن أوّل من اطّلع على خواص القهوة راهبان نصرانيان يدعوهما الشاذلي وحيدر.

إلا أن هذا الكاتب قد وهم في قوله إنهما راهبان، لأنّ الشاذلي هو أبو الحسن علي الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية المتوفى سنة 656 للهجرة، وحيدر هو شيخ الشيوخ حيدر الصوفي صاحب الطريقة الحيدرية الذي أشاع استعمال نبات القِنب أي الحشيشة بين الفقراء. فإن عدنا إلى التاريخ الصحيح، بعد ذكر الروايات الضعيفة، وجدنا أن القهوة حديثة الاستعمال، وأنها دخلت في الأصقاع الأوروبية زمنًا قليلًا بعد شيوعها بين العرب. ومن ثمّ لا صحّة لما ورد في معجم "ميرات ودي لنس" إذ قال إن بني إسرائيل واليونان عرفوا خواصها. 

ومما لا ريب فيه أنّ أطباء العرب الأوّلين لم يعرفوا نبات القهوة، فإن أبا بكر محمّد الرازي المتوفى سنة 320 للهجرة، يريد بالقهوة الخمر وهو أحد أسمائها، وقد نظمها في فصل الخمر في كتابه "منافع الأغذية" فقال بعد ذكره الخمر القابضة: "القهوة وهو نوع من الشراب أوفق للمحرورين غير أنه يسقط الشهوة" ويردف قوله بذكر الخمرة التي تُعرض في الشمس. 

أما ابن سينا فإنه لم يذكر القهوة في جملة النباتات الطبية لا باسمها ولا باسم البن، وإنما ذكر البان والبُنك، فقال في القانون عن البان (طبعة مصر): البان (الماهية) حبّه أكبر من الحمص إلى البياض، وله لبّ لين دهني". وقال عن البُنك: البنك (الماهية) هو شيء يحمل من الهند ومن اليمن، قال بعضهم إنه أمّ غيلان إذا نجر (ويروى نجز) فتساقط".

فترى من هذين الوصفين أنهما لا يطابقان قهوة البنّ. والعلماء يدعون البان باسم ميموزا، أمّا أمّ غيلان فيدعونها ميموزا نيلوتيكا. وإنما ذكر اسمها في باب الشراب فظنّ العلامة سبرنغل أنه أراد بالقهوة شجرة البن، وكذا غُرّ فريتاغ بهذا الاسم في معجمه، والصواب أن ابن سينا عنى بالقهوة الخمر كالرازي ودونك ما كتبه عن الشراب: الشراب (الماهية) أعني به القهوة. (الخواص) يعدل الفضول التي من جنس المرار والنبيذ الطري والغليظ الكدر يجمعان في العروق امتلاءً وأخلاطانية (كذا). (الاختيار) أجوده العتيق الرقيق الصافي العنبي، ويختلف تناوله بحسب الأمزجة أما للشباب فالقدر القليل منه". فيظهر من هذا الوصف أن ابن سينا يريد الخمر لا البن. وقد صرّح بذلك في باب الخمر حيث قال: الخمر (الماهية) هو القهوة وقد ذكرناها في فصل الشين الخ". 

وفي القرن العاشر اشتهر كتاب المفردات لابن البيطار، ومع كثرة ما جمعه صاحبه من العقاقير والنباتات لم يذكر القهوة البتة. وكذلك ضرب صفحاً عن القهوة معاصره الكاهن العطار مؤلّف أوسع كتاب وضعه العرب في المواد الطبية.

وعلى رأي لوكلار في تاريخ الطبّ العربي أن أوّل من ذكر قهوة البن، داود الإنطاكي من أطبّاء القرن السادس عشر للمسيح ووصفها وصفًا بينًا فقال: "البنّ ثمر شجر باليمن، يغرس حبّه في آذار وينمو ويقطف في آب ويطول نحو ثلاثة أذرع على ساق في غلظ الأجام، ويزهر أبيض يخلف حبًا كالبندق وربما تفرطح كالباقلاء وإذا قُشر انقسم نصفين. وأجوده الرزين الأصفر، وأردأه الأسود، وهو حار في الأولى يابس في الثانية.

وقد شاع برده ويبسه وليس كذلك لأنه مرّ وكلّ مرّ حار. ويمكن أن القشر حار، ونفس البن إمّا معتدل أو بارد في الأولى والذي يعضد برده عفوصته. وبالجملة فقد جُرّب لتجفيف الرطوبات والسعال البلغمي والنظلات وفتح السدد وإدرار البول. وقد شاع الآن اسمه بالقهوة إذا حُمّص وطُبخ بالغًا. وهو يُسكّن غليان الدم، وينفع من الجدري والحصبة والشرى الدموي، لكنه يجلب الصداع الدوري، ويهزل جدًا، ويورث السهر ويولد البواسير، ويقطع الشهوة وربما أفضى إلى الماليخوليا. فمن أراد شربه للنشاط ودفع الكسل وما ذكرناه، فيكثر معه من أكل الحلو ودهن الفستق والسمن، وقوم يشربونه باللبن وهو خطأ يخشى منه البرص". 

وقد أثبت العلامة سلفستر دي ساسي أمام المستشرقين في مجموعه المعنون "بالأنيس المفيد للطالب المستفيد" نصوصًا مختلفة في البنّ وأصله، ونشر للشيخ عبد القادر بن محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي، مقالةً حسنةً في ذلك تدعى "عمدة الصفوة في حلّ القهوة" ووضعها سنة 996 للهجرة. وممّا ورد فيها أن ظهور القهوة وانتشارها في اليمن إنما كان على يد الشيخ الإمام جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد المعروف بالذبحاني نسبة إلى ذبحان بلدة باليمن. وكانت وفاة الشيخ المذكور سنة 875 للهجرة.

وقد أسند الشيخ عبد القادر هذه الرواية إلى شهاب الدين بن عبد الغفار وفخر الدين أبي بكر بن أبي يزيد ثم أردف الشيخ ابن عبد الغفار قائلا: "ويحتمل أن يكون الذبحاني أول من أدخلها عدن كما هو المشهور ويحتمل أن الذي أدخلها غيره، ولكنها نسبت إليه لكونه كان هو السبب في ظهورها وانتشارها". 

وهذا القول لا يصح سوى في اليمن لأن بلادًا غيرها عرفته قبل ذلك. وممّا لا ينكر أن الحبش كانوا يستعملون البنّ قبل هذا العهد وكانوا يأكلون حبّه نيًا ويتنقلون به. وكان انتشار القهوة في مصر بعد حدوثها في اليمن بقليل، أدخلها مصر بعض فقراء اليمن كانوا يشربونها ليطيلوا السهر ويذهبوا الكسل. وروى دي ساسي عن جيهان نوما الجغرافي التركي أن أحد الدمشقيين فتح في الأستانة العلية حانوتاً سنة 962 للهجرة، كان يجتمع فيه الأعيان والأدباء ويشربون القهوة فدعي ناديهم بمدرسة العلماء. 

هذا ولا أذكر هنا ما أصاب من المحن شرّاب القهوة. فمن أراد الوقوف على ذلك. فعليه بكتاب عبد القادر. ولعلّ السبب في ذلك أن بعض الأئمة غرّهم اسم القهوة الذي كان يدلّ في أوّل الأمر على الخمر وهي محرمة على المسلمين كما لا يخفى، فأفتوا بتحريم قهوة البنّ أيضًا، لظنهم أنها من الخمور والمشروبات الروحية. والفرق بينهما ظاهر. 

وفي سنة 1591 نشر بروسبير ألبين كتابه في طبّ المصريين وألحقه في السنة التالية بكتاب نباتات مصر، وقد وصف في كليهما البن وصفًا مستوفيًا فقال في بعض مخاطباته عن نباتات مصر: "قد رأيت في حديقة أحد الأتراك اسمه حالي بك، شجرة لا تعرف صورتها تنبت حبوبًا يدعونها بنًّا، يستحضر منها المصريون والعرب شرابًا معروفًا يسمّى قهوة يشربونه بدلًا من الخمر، وأصل هذه الحبوب من اليمن.

والشجرة التي عاينتها تشبه "البجلة" إلا أن ورقها أصفق وأصلب وهي أشد منها خضرةً وتبقى خضراء أبدًا". وزاد في كتابه عن طبّ المصريين أن أهل مصر يطبخون القهوة ويشربونها صباحًا قبل الطعام وأن نساءهم يتخذنها لاستدرار الحيض. 

*بتصرّف (1903)


المساهمون