كشفت مصادر دبلوماسية مصرية عن تلقي القاهرة، أمس السبت، اتصالات عدة، من جنوب أفريقيا ومفوضية الاتحاد الأفريقي لحثها على قبول العودة إلى عقد اجتماعات الجولة الحالية المتعثرة بشأن سد النهضة. لكنّ المسؤولين المصريين المشاركين في اتصالات التفاوض تحفظوا على هذا الأمر، واشترطوا أولاً ضرورة سحب إثيوبيا المسودة التي أرسلتها والخاصة بقواعد الملء والتشغيل المقترحة من قبلها، والتي اعترضت عليها مصر والسودان بسبب تضمينها اتفاقاً أوسع لإعادة محاصصة مياه النيل الأزرق والدخول في مشروعات تنموية مشتركة تقول إنها ستعود بالفائدة على جميع الأطراف.
وقالت المصادر، التي تحدثت مع "العربي الجديد"، إن مصر تطالب حالياً بوجود ضمانات واضحة وملزمة لإثيوبيا حتى لا تخرج عن حدود ما تم الاتفاق عليه في القمة الأفريقية المصغرة الأخيرة، لكن الأمر يبدو مستحيلاً، إذ بدرت من إثيوبيا عدة مؤشرات خلال الساعات الماضية، تجعل من الصعب الوثوق بالعودة للجلوس على طاولة مفاوضات واحدة معها.
وبحسب المصادر، التي اطلعت على الخطاب الإثيوبي المقدم لمصر والسودان الأسبوع الماضي، فهناك فارقاً كبيراً بينه وبين اتجاه التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي مساء أول من أمس، فهو نفى علناً أن تكون بلاده تنوي إعادة المحاصصة في مياه النيل. وقال إن هذا الأمر يجب أن تشارك فيه دول النيل الأخرى، على الرغم من أن المقترح الإثيوبي الرسمي يتحدث صراحة عن إعادة تقسيم مياه النيل الأزرق، الأمر الذي رفضته القاهرة والخرطوم.
وهذه المرة الثالثة التي تتحدث فيها أديس أبابا علناً عن إشراك دول حوض النيل. ووفقاً للمصادر فإنها في نهاية فبراير/شباط الماضي، أبلغت واشنطن بأنها باتت ترى أن أي اتفاق ثلاثي حول مياه النيل الأزرق، من دون العرض على باقي دول حوض النيل -بما في ذلك دول النيل الأبيض- أمر يفتقر للعدالة، ويسمح باحتكار دولتي المصب للمياه، وإهدار نتائج الاتفاق الإطاري في عنتيبي عام 2010، مما اعتبر في حينه تمهيداً للانسحاب الرسمي من المفاوضات الثلاثية برعاية واشنطن والبنك الدولي. ويقوم اتفاق عنتيبي في الأساس على إعادة توزيع الحصص بصورة مجحفة لمصر والسودان وتزيد عن إمكانيات دول المنبع في التخزين والاستفادة، الأمر الذي يفرّغ جميع المفاوضات الثلاثية-بما فيها اتفاق المبادئ 2015- من قيمتها ومعناها. كما أن إثيوبيا في رسالتها الثانية لمجلس الأمن اعتراضاً على الشكوى المصرية، وكذلك في خطاب ممثلها خلال الجلسة التي عقدت لهذا الغرض، اتهمت مصر والسودان بمحاولة فرض الأمر الواقع الذي ترتب على اتفاق تقسيم مياه النيل عام 1959 على آثار إنشاء سد النهضة. وذهبت أبعد من ذلك، بالتنبيه إلى ضرورة عدم استبعاد باقي دول حوض النيل من التفاهمات الجديدة.
وأوضحت المصادر أن إثيوبيا تتعمد الإعلان عن أمور، وإخفاء مقترحات أخرى عن الرأي العام المحلي والعالمي، وحتى عن الأطراف الوسيطة والمراقبين، ما يؤكد صعوبة الرهان على نجاح مصر في تحقيق اختراق بجولة التفاوض الحالية التي حُكم عليها بالفشل منذ بدايتها، ولا سيما أن الأطراف المعنية التي تواصلت معها القاهرة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، عجزت عن إعطاء تعهدات واضحة بحلحلة الموقف قريباً. ووصفت المصادر المصرية هجوم إثيوبيا على واشنطن والبنك الدولي، أمس الأول، وانتقاد تدخلهما في المفاوضات بناء على رغبة مصر وما يتردد عن احتمالية توقيع عقوبات عليها أو حرمانها من بعض المزايا، بأنها "ابتزاز واضح لتصوير نفسها أمام القوى الأخرى كطرف أضعف على عكس الحقيقة". وأكدت أن الولايات المتحدة والبنك الدولي لم يبدر منهما أي موقف مناوئ للإثيوبيين خلال المفاوضات الحالية، كما أن واشنطن تتابع المفاوضات مثل غيرها من المراقبين حالياً من دون تقديم أي مقترحات أو صياغات.
وعلى المستوى الفني، علق مصدر حكومي في وزارة الري على المقترح الإثيوبي الأخير بعد دراسته بواسطة مجموعات عمل مختلفة في الوزارة، قائلاً إنه "ينسف مفاوضات السنوات الخمس الماضية بالكامل". ووصف رفض أديس أبابا تمرير كميات معينة ومحددة من المياه في فترات الجفاف والجفاف الممتد بأنه "أمر يجعل من الأفضل عدم التوصل إلى اتفاق، واللجوء مباشرة لوسائل أخرى، سياسية أو قانونية أو حتى عسكرية". وشرح المصدر ذلك بقوله إن إثيوبيا تحاول تغطية مقترحها الذي يمنحها بشكل كامل سلطة التحكم في الكميات المتدفقة بنص المبدأ الخامس من اتفاق المبادئ الموقع عام 2015 والذي يمنحها منفردة سلطة تغيير الكميات حسب الحاجة، على أن يتم الالتزام بالقواعد الاسترشادية. وأضاف "إثيوبيا حالياً تأخذ المفاوضات لمستوى آخر من التعقيد، حول معنى وطبيعة القواعد الاسترشادية، فالمعمول به منذ بداية التفاوض أن تكون القواعد عبارة عن أرقام ومصفوفات واضحة للتعامل مع الحالات المختلفة الواردة، ولم يسبق لإثيوبيا أن جادلت في ذلك". وأضاف المصدر أنه حتى عندما اعترضت إثيوبيا على التدابير التي تضمنتها مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت عليها مصر منفردة نهاية فبراير/شباط الماضي، فإنها لم تجادل إلا في الكميات، وليس في وضعها في الاتفاق من الأساس، خصوصاً أن تحديد كميات تدفق المياه ليس واجباً فقط لضمان عدم إيقاع أضرار بيئية أو مائية، ولكن أيضاً لحماية السدود الصغيرة بالسودان، وتفادي ما حدث أخيراً من انهيار أحدها (سد بوط) بسبب زيادة منسوب الفيضان. وهذا الأمر من الممكن تكراره إذا صرف سد النهضة كميات من المياه تزيد على استيعاب تلك السدود الصغيرة بشكل يومي.