ديفيد غرايبر... رحيل هادئ لثائر ضد "وول ستريت" وتوحش رأس المال

ديفيد غرايبر... رحيل هادئ لثائر ضد "وول ستريت" وتوحش رأس المال

06 سبتمبر 2020
غرايبر عُرف بعدائه الشديد لفكرة الاستدانة (Getty)
+ الخط -

كان من الوجوه البارزة في حركة " احتلوا وول ستريت" عام 2011، ويؤكد العديدون أن مساهمته كانت حاسمة في نحت "نحن الـ 99%"، الذي كان الشعار الأبرز الذي رفعته تلك الحركة، التي نهضت ضد جشع عالم المال وتأثير الشركات العملاقة في السياسة الأميركية.

عُرف الاقتصادي الأميركي، ديفيد غرايبر، بعدائه الشديد لفكرة الاستدانة، لتأتي مفارقة وفاته في الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري، في الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة من وصول ديونها إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، متجاوزة إجمالي الناتج المحلي الأميركي للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، واتساع الفجوة كذلك بين الأثرياء والفقراء.

ويوم رحيل غرايبر، أعلن مكتب الموازنة التابع للكونغرس توقعه تجاوز عجز الموازنة الأميركية خلال السنة المالية الحالية، التي تنقضي بنهاية الشهر الجاري، 3.3 تريليونات دولار لأول مرة في تاريخه، بعد أن تضاعف إنفاق الحكومة الفيدرالية لإنقاذ اقتصاد البلاد المنهار بفعل أزمة فيروس كورونا الجديد وجهود الحد من انتشاره.

لطالما ساعدت كتابات غرايبر، على خلق واحدة من أهم حركات الاحتجاجات العالمية، ضد التفاوت في الثروات، قبل تسعة أعوام في وول ستريت الحي المالي في الولايات المتحدة، كما كان وجها بارزاً في الاحتجاجات ضد المنتدى الاقتصاد العالمي الذي شهدته نيويورك في 2002.

تعرض غرايبر الذي ولد في نيويورك عام 1962، للإبعاد من جامعة ييل، في كنتيكت بالولايات المتحدة بدعوى أنه ذو نزعة فوضوية، ليلتحق بعدها بكلية لندن للاقتصاد الشهيرة، ليدرس فيها الانثروبولوجيا (علم الإنسان)، وألف قبل عدة سنوات كتاب "الدَّين" الذي سجل أعلى المبيعات، وناقش فيه نشأة وتطور الدَّين على مدار خمسة آلاف عام من تاريخ البشرية، رافضاً لفكرة نشأة النقود لتحل محل نظام المقايضة الذي كان سائداً قبل وجودها، ومؤكداً أن النظام الذي كان سائداً كان يقوم على البيع والشراء لسنوات طويلة، قبل ظهور العملات المعدنية أو الورقية.

استعرض غرايبر في كتابه المثير للتأمل تاريخ الديون مع المجتمعات المختلفة، من شعوب غرب أفريقيا والسومر القديمة إلى أيرلندا في العصور الوسطى والدولة المعاصرة في الولايات المتحدة، ليكشف تناقض نظرة الشعوب للديون، حيث يراها البعض التزاماً، بينما يعتبرها آخرون خطيئة، وتتعامل معها بعض الدول على أنها المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، بينما تكون في كثير من الأحيان أداة للقمع.

وعلى أكثر من 500 صفحة من صفحات الكتاب، حاول غرايبر البحث عن إجابة لسؤال هام شغله أكثر سنوات حياته، وهو لماذا اعتقد الكثير من البشر على مدار التاريخ أن سداد الديون أمر أخلاقي، بينما كانوا يعدون أولئك الذين يتكسبون عيشهم من إقراض المال من الأشرار.

وشارك غرايبر في تكوين العديد من الحركات الاحتجاجية حول العالم، حيث كان له وجود قوي في العديد من المظاهرات اليسارية الكبرى خلال العقدين الماضيين، في مدينتي كيبيك الكندية وجنوة في إيطاليا، واحتجاجات المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في فيلادلفيا ونيويورك، والمنتدى الاقتصادي العالمي في نيويورك عام 2002، كذلك الاحتجاجات على الرسوم الدراسية في لندن في 2011.

وفي أعقاب انتهاء الأزمة المالية العالمية، كان غرايبر عضواً رئيسياً في مجموعة صغيرة من النشطاء الذين خططوا بهدوء، ثم نفذوا بكل قوة، احتلال حديقة زوكوتي بارك في حي مانهاتن الشهير بنيويورك، الذي كان نواة لما تطور بعد ذلك ليكون حركة عالمية لها ملايين المؤيدين في كافة أنحاء العالم، وعرفت باسم "احتلوا وول ستريت".

لم يكن غرايبر قائداً للحركة واسعة الانتشار التي كانت تقوم بالأساس على رفض وجود قائد أو زعيم، ولا كان يوماً متحدثاً باسمها أو أشهر من شارك فيها، إلا أنه كان أحد أهم الأصوات وأكثرها تأثيراً.

وقتها كتب غرايبر: "إننا نشاهد بدايات جريئة لتأكيد الذات من جيل جديد من الأميركيين، جيل يقترب من إتمام تعليمه في غياب الوظائف وعدم وضوح المستقبل، بينما تثقل كاهله ديون هائلة لا يتنازل أصحابها عنها، فهل يستغرب البعض أنهم يرغبون في التحدث مع أقطاب المال الذين سرقوا مستقبلهم"؟

في نهاية كتابه، أوصى غرايبر بإسقاط كل الديون التي حصلت عليها الدول ولم تسدد حتى الآن، كما كل ديون الأفراد الاستهلاكية، مؤكداً أنه يعرف أن "هذا الإجراء ربما يكون نادراً في عالمنا الحالي، إلا أنه كان معتاداً في بابل القديمة وآشور ومصر تحت حكم البطالمة". وقال إن حكام ذلك الزمان كانوا يعرفون أن البديل سيكون الشغب والفوضى في السنوات التي تقل فيها غلة المحاصيل، وتثقل الديون أعباء الفلاحين.

وأشار غرايبر إلى أن أول استخدام لكلمة "حرية" في وثيقة سياسية كان في مرسوم إلغاء ديون لملك السومريين، مضيفاً: "سيكون ذلك مفيدًا، ليس فقط لأنه سيخفف الكثير من المعاناة الإنسانية الحقيقية، ولكن لأنه سيكون أيضاً طريقتنا في تذكير أنفسنا بأن المال ليس شيئا عظيما، وأن سداد ديون المرء ليس جوهر الأخلاق، وأن كل هذه الأشياء هي ترتيبات بشرية، فإذا كانت الديمقراطية تعني شيئاً واحداً، فهو القدرة على الاتفاق على ترتيب الأمور بطريقة مختلفة".

المساهمون