دسّ السم في العقول

دسّ السم في العقول

20 يوليو 2015
+ الخط -
تحضرني ذكريات كثيرة في أثناء عملي طبيبة عيون، لم أكن ألتفت إليها كثيراً، لكنها الآن تتخذ أبعاداً خطيرة، خصوصاً في فوضى الإعلام المُنافق، والذي يعتمد على الإثارة وتضليل العقول. أذكر مثلاً طفلاً كان عمره 6 سنوات، حين أجريت له عملية حَوَل في عام 1996 وكان خجولاً وشجاعاً، في الوقت نفسه، إذ يتحمل الألم والفحص العيني الذي يخشاه الصغار. دخل عيادتي مع والديه، فرحبت به، وقلت له أهلاً وسهلاً مرحباً، ومسحت بيدي بحنان على شعره، فابتعد، وقال: لا تقولي مرحبا، بل السلام عليكم. لا أعرف لم ضحكت، وسألته: لماذا؟ فقال غاضباً إن الشيخ في الجامع أبلغه بأن كلمة مرحباً عيب، ويجب أن يكون السلام بين الناس بعبارة السلام عليكم. أخبرتني أمه أنه يتأثر جداً بكل كلمة ينطقها الشيخ أستاذه، ومنذ انتسابه إلى مدارس الأسد لتحفيظ القرآن، صار ينهر أخواته اللاتي يكبرنه، ويصرخ فيهن عند أقل تصرف. لم أعط أهمية كبيرة، وقتها، لموقف طفل في السادسة، ينهرني، أنا طبيبته، لأنني أقول مرحباً، ولا أمتثل لما يقوله شيخ الجامع. ولكن، أتخيل، الآن، كيف أصبح أسامة بعد سنوات أي عقل مُتحجر يحمل.
طوال عملي طبيبة عيون، كنتُ أروّع، كل مرة، من أسئلة المرضى التي لا تدل على جهل فظيع فقط، بل على تسطيح رهيب لمفهوم الدين والإيمان، كما لو أن الدين طقوس يمارسها الإنسان. ولا أنسى شاباً، طبيب أسنان، قصد عيادتي، لأن نثرة حديد دخلت عينه وانغرست في قرنيته. دخل عيادتي مُترنحاً من الألم، وقلت له إنني سأقطر عدة نقاط من قطرة مخدرة، لأتمكن من نزع نثرة الحديد من قرنيته بعد تجريفها، فانتفض وقال: أعوذ بالله، ستنزعين صيامي، هل نسيت أننا في رمضان، والقطرة نشعر بطعمها في حلقنا فنفطر؟ جمدني جوابه، وقلت له ولتشعر بطعم القطرة، ماذا يهم. الدين يسر وليس عسرا، ثم كيف سأجرف نثرة الحديد من قرنيتك؟ فرد بتصميم بدون قطرة مخدرة، وسيتحمل الألم.
وكان مرضى كثيرون يتصلون بي، ليسألوا إن كانت الإبرة تُفطر، والتحميلة وغيرها. هل الدين هو هذه الشكليات؟ هل الدين يحرم أن نقول مرحبا، ويحرم استعمال دواء إسعافي لكي لا يحس الصائم بطعمه؟ ولكن، إلى أي حد يمكن أن نلوم الإنسان العادي وفضائيات الشعوذة تحاصره، وثمة برامج مُخصصة لتلك التفاصيل التافهة البعيدة عن جوهر الدين.
الأخطر أن بعض الفضائيات تعرض برامج تبدو ظاهرياً علمية وفقهية، وتستند إلى القرآن والفقهاء. ولا أنسى سيدة أنيقة مُختصة في علم الاجتماع والفقه، وكانت موهوبة بالكلام، وكان موضوع الحلقة "تعدد الزوجات"، وتحدثت أن الإسلام أنصف المرأة، وحدد تعدد الزوجات بحالات معينة، ثم بدأت اتصالات المشاهدين، وتحدثت سيدة يتقطع صوتها من الألم، وقالت إنها متزوجة منذ ستة عشر عاماً، وتعمل مهندسة ولديها ثلاثة أطفال وعلاقتها بزوجها ممتازة، لكنها صُعقت بأن هذا الزوج تزوج ابنة خالتها، بعد وفاة زوج قريبتها، وبأنها متألمة، وأولادها مصدومون، فعقبت عالمة الاجتماع: عليك أن تكوني فخورة بزوجك الشهم الذي حمى أرملة من الغواية، وتبنى أيتاماً! فسألت السيدة المفجوعة بذهول: هل هذا هو الحل. وكرامتي ومشاعر أولادي؟ وهنا قُطع الاتصال.
أتساءل الآن: أي دس للسم في العقول هذا، هل تقبل عالمة الاجتماع بأن يتزوج زوجها من امرأة أخرى؟ ألا يوجد حل لوقاية أرملة من الغواية والرأفة بالأيتام سوى الزواج؟ هل يقدّر مالكو قنوات فضائيات الشعوذة خطورة هذه الأفكار، ومدى تأثيرها في الجيل الناشئ؟ هل الغاية إنتاج جيل مُتطرف متعصب لا يعرف من الدين المحبة والرحمة والتسامح، بل يتحول الدين إلى ممارسات شكلية.
هذه الحوادث التي ذكرت بعضها، وخطورتها أنها عادية، تكمن فيها كل الخطورة، خطورتها في تضليل العقل عن المحاكمة العلمية والإنسانية الدقيقة، وخطورتها في تحويل جيل من الشباب إلى إرهابيين، لا يعرف عن الدين سوى مجموعة طقوس، يمكن اختصارها بعبارة: نفذ بدون اعتراض.

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية