درعا... الثورة والحقيقة

درعا... الثورة والحقيقة

24 يوليو 2018
+ الخط -
وكأنها الأيام الأولى للثورة السورية، درعا التي استبقت الانتفاضة العارمة، وكسرت خوف اليوم الأول، درعا الدم البادئ؛ أول المدن الخارجة تماماً عن سلطة القائد، الساعية على درب الحرية، وعلى سفح الموت، لتدشن سلطتها وحدها، سلطة مدينة قررت مصير 40 عاماً من القهر والخوف..

قبل سبع سنوات من الآن؛ كانت درعا، وببلاغةٍ وفصاحةٍ مشهود بهما، تحطم معادلة الذل والخنوع بالهتاف الأزلي: "الموت ولا المذلة"، وشعارات أخرى، هتافات، مظاهرات ودماء ورصاص، أعلنت من خلالها درعا زمناً آخر في سورية؛ حيث سورية وحدها مجردة من لفظ الأسد، اللفظ الذي شوه كلمة سورية، ناهيك عن التشوهات التي لحقت بسورية الوطن والدولة والأرض والشعب بفعل الاسم نفسه، وما ينطوي تحت هذا الاسم من منظومةٍ أمنيةٍ "مافيوزية" تحكمت في البلاد طولاً وعرضاً، ونهبت مقدرات الدولة، وكل ذلك واسم الأسد؛ الرئيس الخالد والقائد الأعلى، وآراء البعث وشعارات القومية والاشتراكية والممانعة، تحتل الهوية السورية وتحجب عنا، وعن السوريين أنفسهم، الواقع الحقيقي لسورية الإنسان والأرض.


لم أعرف سورية، قبل ذلك، رغم قربي جغرافياً وعاطفياً، من هذا الوطن الأقرب أكثر من أي وطن آخر، فيما عدا فلسطين المحتلة، إلى الأردن؛ لم تكن سورية واضحة تماماً أمامي، إلا في مارس/ آذار من عام 2011، ودرعا الثورة هي أول معرفتي بسورية، سورية الحقيقية المتجذرة بتاريخ أمةٍ كانت ولم تزل تستند على الحتمية التاريخية والسياسية والثقافية لأرض الشام.

في اندلاعها الأول، واجهت الثورة السورية بالقدر الذي واجهته من العنف والجرائم، تعتيماً واضحاً غيب الرؤية لمن يقع خارج خط الميدان؛ الخط الذي على جانبيه تكون فيه المجريات والوقائع ملتبسة غامضة إلا أني عرفت افتناناً جميلاً بالهتافات العالية التي تصدح في قلب درعا، الافتنان الذي سيجعل رواية النظام السوري عما يجري؛ محل شكوك عميقة.

شاعرية الهتاف؛ تزيح نشرات الأخبار وتحليلات السياسيين، وتهدر على أزيز الرصاص؛ صوتاً لا لبس فيه عن حقيقة ما يدور في دولة ظلّت تلفها رواية السلطة القاتمة ضمن خطاب إعلامي سلطوي يمجد الحاكم ويغيّب الشارع. وآلة قمعٍ بوليسيةٍ اختزلت الصحافة والإعلام في قنواتٍ وصحفٍ رسميةٍ شكلت المصدر الوحيد لما حدث ويحدث بل وما سيحدث.

إلا أن جموع المتظاهرين انقلبوا على المصدر والوسيلة والرسالة، وكانوا بانصهارهم بالفعل الاحتجاجي على الأرض؛ يصيغون الخبر والحدث بنقاءٍ تامٍ بعيداً عن الإيدولوجية والتموضعات الحزبية، وبانتفاضة الجموع الثورية، عرفتُ سورية الحقيقية دون مواربةٍ؛ وما كان ليس إلا الثورة بعينها.

تعود درعا، مشهداً سوداوياً آخر من الجريمة الممتدة، العسكر يطوقُ المدنَ الرئيسية في المحافظة الجنوبية، جيش سفك بالدم السوري منذ درعا، إيرانيون وعناصر من "حزب الله"، تكرار مفزع لواقعة حلب والغوطة واليرموك، يُحاصَرُ الشعبُ الذي خذله سلاح فصائل المعارضة وشعارات العالم حول الحرية والتغيير. ومواقفُ دولٍ اعتبرت نفسها "صديقةً" للشعب السوري، وجوارٌ يغلق حدوده تحت مبرراتٍ دنيئة.

الشعب الذي غرس بذرة الثورة السورية في هذا الجنوب الملتهب؛ يُقتلع تماماً على عين الشعوب الأخرى، ولكن عين درعا وببصيرةٍ ثوريةٍ؛ تنظر طفلاً يكتب مرةً أخرى و للأبد: "جاييك الدور".
C0BA4932-E7DF-48F8-A499-8FAA0D6C1F19
عدي راغب صدقة

أدرس تخصص الصحافة والإعلام في جامعة البترا... أهتم بعديد الشؤون العربية، ولكن أولي اهتماما خاصا بالشأن الفلسطيني.