درس الغنوشي في لندن

درس الغنوشي في لندن

04 اغسطس 2020
+ الخط -

ليس الخبر، هذه المرّة، عن رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، أنه احتفظ بموقعه رئيساً لمجلس النواب التونسي، بعد إخفاق محاولة تكتلاتٍ في المجلس، لا يداري أفرادٌ كثيرون فيها معاداتهم الثورة التونسية، سحب الثقة منه، بل الخبر أن "النهضة" أعلنت، الأسبوع الماضي، أن الغنوشي سيتبرّع، للأعمال الخيرية لمنظمة الهلال الأحمر التونسي بمبلغ 45 ألف جنيه إسترليني، قيمة التعويض المادي الذي قضت محكمة العدل العليا البريطانية في لندن بأن يُدفع له من موقع Middle East On Line، عن التشويه الذي ألحقه هذا الموقع بالغنوشي، في نشره في يوليو/ تموز 2019 مقالاً اتهم الرجل بأنه يتزّعم "واجهة إرهابية"، وأنه ينشط في دعم الإرهاب في تونس والخارج، ويتلقّى أموالاً من دولة قطر، الأمر الذي أتاح لها ممارسة تأثير غير لائق على سياسة تونس. وكان الحكم لمصلحة الغنوشي قد صدر في مايو/ أيار الماضي. والبادي أن مالك الموقع المذكور، هيثم الزبيدي، لم يعرف بعد أن بريطانيا التي يقيم فيها دولة قانون، وأن مزاولة استسهال الافتئات على الناس، والابتذال في رمي الخصوم بالإرهاب وغيره، بخفّةٍ وزعرنة، قد يجوز التلهّي به في دولة الإمارات التي تواليها صحيفة العرب التي يرأس الزميل رئاسة تحريرها، الصحيفة التي تجرّأت على راشد الغنوشي برميه باتهاماتٍ من عنديّاتها، فمضى الزعيم الإسلامي الرصين إلى القضاء البريطاني بدعوى تشهير، كسبها في عام 2013، بدفع 61 ألف جنيه إسترليني له، على سبيل التعويض في القضية. ما قد يعني أن الزبيدي لا يريد أن يرعوي، ولا يُمانع في أن يُلدغ من الجحر نفسِه مرتين. وكان ظنّه، ربما، أن حذف الافتراء على الغنوشي من الموقع الإلكتروني سيُنجيه من العقوبة.
وثمّة حزمةٌ من الدروس في واقعة التقاضي هذه، أحدُها أن على خصوم الإسلام السياسي، في أجهزة إعلام دول الثورات المضادّة، ومواقعها الإلكترونية وصحافاتها، في أبوظبي والقاهرة ولندن وغيرها، أن يتحرّزوا في ثرثراتهم ويحتاطوا في الخراريف التي يُشيعونها، فليس من فضيحةٍ مخزيةٍ لموقع هيثم الزبيدي أكثر من قول المحامي ماتيلد غروبو، من مكتب محامي كارتر روك الذي مثّل الغنوشي في القضية الجديدة (ثمّة قضايا أخرى مرتقبة)، إن الطرف الآخر فشل في تقديم دليلٍ واحدٍ على اتهاماتهم ضد حركة النهضة ورئيسها، فحكم القاضي البريطاني، ماثيو نيكلن، بالتعويض.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، جرّب محمد دحلان رفع دعوى على موقع Middle East Eye في لندن، بسبب تقرير فيه جاء على "دورٍ" للمذكور في محاولة الانقلاب العسكري ضد الرئيس أردوغان في تركيا. وأصرّ رئيس تحرير الموقع، ديفيد هيرست، على ما جاء في التقرير، ولم يحذفه، ومضى في الدفاع عنه أمام المحكمة، غير أن دحلان سحب الدعوى لاحقاً، قبل النطق بالحكم، الأمر الذي ألزمه، كما نُشر، بدفع خمسمائة ألف جنيه استرليني تكاليف الدعوى. وليس بعيداً عن الموضوع، لا يُنسى أن مسؤولاً كويتياً قال إن بلاده طلبت، في مساعيها للوساطة، من دول حصار قطر أدلّةً محدّدةً وموثقةً على اتهاماتها الدوحة بدعم الإرهاب، ليُمكن محاورة قطر بشأنها، إلا أنها لم تقدّم شيئاً، وأن إحدى الدول قدّمت ملفاً يضمّ قصاصاتٍ من الصحف (!).
والظاهر أنه يتوطّن في أفهام القائمين على إعلام الإمارات وشقيقاتها، الإعلام الذي يقيم هذه الأيام ما يشبه "فرح العمدة" احتفالاً بالجاري في الأردن ضد نقابة المعلمين، أن هؤلاء عندما يتحدّثون إلى أنفسهم عن هذا إرهابي وذاك داعم للإرهاب، فإنهم يفترضون ذواتِهم كما حذامِ التي قال الشاعر الجاهلي إنها إذا قالت فصدّقوها/ فإن القول ما قالت حذامِ. وأياً كانت أوجه الفكاهة في حالهم هذا، يبقى أن في وسعهم أن يطربوا لدروشاتهم الخاصة مثل هذه، عن راشد الغنوشي وغيره، وأن يبيعوا كلامَهم عن التنوير الذي يعملون على إشاعته في الأمة لمن يقبضه ممن حواليهم، غير أن النصيحة لهم أن يلعبوا هذا في ملاعبهم، لا أن يفضحوا أنفسهم في بريطانيا وغيرها، فيُصابوا بالخزي مرةً واثنتين وثلاثاً وأكثر، وهذه جولات راشد الغنوشي معهم، الجديدة وسابقاتها، تُضحك العالم عليهم.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.