خارج القطيع

خارج القطيع

04 ابريل 2018
+ الخط -
هل تذكر يا ونستون حينما كتبت في مذكراتك تقول: إن الحرية هي أن تكون حراً في أن تقول إن اثنين واثنين يساويان أربعة؟

فأجاب ونستون: نعم

ورفع أوبراين يده اليسرى جاعلاً ظهرها إلى ونستون ومخفياً الإبهام.. الأصابع الأربع مرفوعة، وسأل: كم إصبعاً ترى يا ونستون؟
أربعاً.
وإذا قال الحزب إنها ليست أربعاً بل خمس.. فكم يكون عددها حينئذ؟
أربعاً
ولم يكد وينستون يتم هذه الكلمة حتى صرخ من شدة الألم الذي سرى في أوصاله وأشارت إبرة الجهاز إلى خمسة وخمسون.
كم إصبعاً ترى يا ونستون؟
أربعاً
فارتفعت الإبرة إلى الستين.. كم إصبعاً ترى يا ونستون؟
أربعاً.. أربعاً.. ماذا أقول غير ذلك.. أربعاً
(مشهد من رواية 1948 - جورج أوريل)

أيها السادة البائسون المحبطون
أيها السادة المقاطعون
يجب أن تبقى أربعاً.. ونردد أنها أربعاً
نظام عبد الفتاح السيسي يحاصرنا.. حتى على مواقع التواصل الاجتماعي.. "كتيبتين" السيسي بدأوا في التغلغل إلى مجتمعنا الافتراضي، وكثير منا فقد الرغبة في التعبير عن رأيه، فضلًا عن الدخول في جدالات ومعارك حوارية.

في انتخابات 2014 أُطلق هاشتاج سخر من السيسي حتى صار الأول عالميا، كانت المظاهرات المتفرقة متوسطة الحشد لها حضور في المشهد، أغان وأشعار ومقالات تدحض كل تبريرات وأكاذيب الجنرال القاتل وطريقة وصوله للسلطة..

أذكر ذلك الشاب الذي ظهر في فيديو قبيل تلكم الانتخابات يصرخ في الناس تحت تمثال طلعت حرب بشكل غاضب وساخر وثائر: انتخبوا (الهاشتاج).. انتخبوا (الهاشتاج) يا (مهشتجيين).

هذه المشاهد المتفرقة اختفت تمامًا.. لا أقول إنها غيرت مسارًا، ولكن كان لها دويّ وعبرت عن حقيقة رأي جموع كبيرة في مصر، ولكنها الآن اختفت بسبب الملل لا بسبب الخوف من القمع.


لم تحدث تعبئة للمقاطعة كما حدث في 2014، ولكن سار الأمر هذه المرة بالقصور الذاتي، المقاطعون قاطعوا في صمت والمطبلون علا صوتهم وزاد رقصهم، ولجانهم الإلكترونية وصفحاتهم تروج بدأب وشراسة أساطير عن إنجازات لم تحدث ورئيس لم يُفلح!

ما زالت قناعاتنا كما هي وانحيازاتنا هي هي، ولكن رغبتنا في الصمت والانزواء تعاظمت، لذلك وجب التنويه.

رغم أن المساحة المتبقية لنا محدودة والمتاح قليل، بل قليل جدا، ورغم أننا نقف في جزر منعزلة، مجموعات وفرادى، منعزلين ومهزومين، مثخنين بالجراح، إلا أن بقاء كتلة صلبة متشبثة بمواقفها وإيمانها بذاتها واقفة على نواصي المجموعات والدوائر والمهتمين وكل من كان ينتمي لقضية التغيير والحرية ومناوأة الحكم العسكري لتشد على يديه، وتعلن أننا ما زلنا موجودين لم نندثر، حتى وإن لم نقدم جديدًا، وليست لنا رغبة في أي تحرك أو إعداد للمستقبل..

إن لم يكن ذلك للحفاظ على مساحة من أرض الواقع السياسي ومكتسبًا يتم تسليمه لمجموعات وقوى سياسية جديدة ربما تنشأ من رحم هذا السواد وتكون لديها الفرصة لتنجح في ما فشلنا فيه، إن لم يكن ذلك.. على الأقل فنحن خارج القطيع المُساق.. نحن آمنا وما زلنا نؤمن بالحرية.. نؤمن أن مبادئ الديمقراطية والعدل والمساواة هي الطريق الوحيد لنهضة هذا البلد وانتشاله وانتشال أهله من مستنقع الجهل والفقر والعنف، فلسنا ذراتِ غبار تذروها الرياح.. ولا خيالات ميتة بلا روح.. النظام نفسه لا يرانا كذلك.

ما زلنا مصدر إزعاج لشخص يضيق ذرعاً بأسئلة مؤيديه، ولم يستطع تمالك غضبه مرات عدة على الهواء مباشرة: "أنت دارس اللي أنت بتقوله ده؟!"، "الناس لا هي فاهمة ولا هي عارفة.. ميصحش كده.. ميصحش كده"، "أنا مش عايز كلام في الموضوع ده تاني".. أنا هنا لا أعظ ولا أطلب من أحد فعل شيء محدد.

ولكن لا ينبغي أن تكون نهايتنا هكذا راضين بالهزيمة قانعين بالانسحاق.. مستسلمين لقوة العدو الكاسحة، لكنني أعلن أنني لن أنضم للقطيع، لا طواعية ولا خوفًا ولا عدم اكتراث، ما زلنا كتلة كبيرة متنوعة تُكوّن رأيًا عامًّا مضادًا في وطن يحكمه القمع والكذب والجور والفساد، وأزعم أن هناك ملايين صامتة تتطلع لمن يُعبّر عنها.

وبرغم كل التعبئة الدعائية التي تحمّل نفقاتها أصحاب الشركات والمحلات وأجبروا على تعليق لافتات المبايعة في كل شبر من مصر.. والإلحاح الإعلامي من جميع القنوات والصحف، وبرغم حشد موظفي الجهاز الإداري وعمال المصانع والشركات واقتياد الناس من على المقاهي إلى مقارِّ الانتخاب، وبرغم الرشاوى وشراء الأصوات المسجّل في عدة مقاطع فيديو، وبرغم المنافس الكومبارس الذي جرى إحضاره من الظل، فالنتيجة التي أعلنها النظام نفسه - وهي محل شك بالطبع في انتخابات لم يراقبها أحد.. إلا إذا اعتبرنا جامعة الدول العربية أحدا -

نسبة المشاركة فيها أقل من انتخابات 2014، والأصوات الباطلة أكثر كذلك من انتخابات 2014. السيسي يضيق بكل صوت لا ينافقه، ويتمنى لو قضى تمامًا على كل المقاطعين والمعارضين والمرشحين وأنصار المرشحين، هو لا يتحمل فكرة المعارضة والاختلاف، لا يتحمل هؤلاء المزعجين البائسين المحبطين الذين نالوا منه سخرية واحتقارًا، ولم يقدسوه عجلًا يُعبد ولا رأوه بالغًا عاقلًا رشيدًا يصلح للقيادة، وأعلنوا كثيرًا أنه ديكتاتور.. قاتل.. مجنون.. لن نكلَّ عن قول ما نعتقد.. فلن يعبر عن اعتقادنا غيرنا.

هو هو الكلام نفسه عن تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الدَين وخفض الدعم وزيادة التضخم وإهدار أموال الشعب في شراء الأسلحة.. وسحق حقوق الإنسان.. وحرية الإعلام وحجب المواقع.. والتوقيع على اتفاقيات مُهينة من ترسيم الحدود إلى سد النهضة إلى اتفاقية التبعية والرضوخ CISMOA مع الجيش الأميركي.. هو هو الكلام نفسه.. لكننا سنردده.. وسنعيد اجتراره.

ولتبقى كلمتنا مسموعة لنا قبل غيرنا.. السكوت لعنة وانحسار، للكلمة قوة وروح تقضُّ مضاجع الطغاة وتنتهك قدسيتهم وتجرح كبريائهم، الواقع ما زال يقول إنه لم يدن الجميع للباطل.. ما زالت هناك ثُلة لم تتبع الباطل، ولم تُذعن له ولم تنضمَّ للقطيع، ويجب أن نبقى كذلك.. خارج القطيع.