حوارٌ بين عشاق الأقصى

حوارٌ بين عشاق الأقصى

26 مايو 2020
+ الخط -
عمر وصلاح، صديقان تعودا من عشر سنوات الاعتكاف في المسجد الأقصى بالعشر الأواخر من رمضان، يقضيان تلك الأيام بين جنبات المسجد المبارك، يتنقلان بين مصلياته وباحاته، ويفطران معًا في ساحاته أمام مصلى قبة الصخرة، ومن ثم يساعدان المصلين على تنظيف الساحات وإعدادها لصلاة التراويح، ويبقيان في المسجد في تهجد وذكر وصلاة حتى الفجر، فيعودان إلى منزليهما، وقد عبّا من معين هذا المسجد المبارك، وهزا جذع الخشوع والرحمة.

ومع إغلاق الأقصى بسبب جائحة "كورونا"، حُرم الصديقان من الصلاة في المسجد المبارك، وحُجبت عنهما فضيلة القيام في أرجائه، فجراء تحسرهما على هذه الخسارة الجليلة، وحرمانهما من هذا الفضل العظيم، جرى بينهما هذا الحوار اللطيف، الذي تم مراسلةً على إحدى وسائل التواصل، يبثان فيه ما بهما من تلوع وشوق ولهفة وتحنان لهذه البقعة المباركة.

عمر: السلام عليكم، كيف حالك أخي الحبيب صلاح، أنا في شوقٍ كبير لكم.

صلاح: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله شيخ عمر، -هلا وغلا-، الحمد لله رب العالمين، بفضل الله، كيف السيدة الوالدة، عساها أصبحت أفضل بعد الوعكة الأخيرة.

عمر: الشكر لله على فضله ونعمائه، بخير وصحة وعافية، سألتني عنك اليوم صباحًا، ودعت لك بزوجة صالحة حلوة مليحة.


صلاح: أوووه، تسلم لقلبي الحجة، رب يكرمها ويحفظها ويشفيها، سلامي لها ولجميع الأحباب.

عمر: يوصل يا صديقي، طمني عنك بهل الشهر الفضيل، - يا زلمي- اشتقنا لك والله، واشتقنا "للقعدة" في الأقصى..

صلاح: آهٍ يا عمر، قلبي يئن ويتوله يا أخي، لا أستطيع البُعد عنه لا أستطيع... أشعر بأن غصص العالم كلها في قلبي، أشعر بأن الدنيا مظلمة في وجهي بعد إغلاقه.

عمر: صبرًا يا صلاح، والله إنّي أحترق في اليوم ألف مرة، ولا أستطيع البوح بما يدور في خَلدي، ولكن ماذا يمكننا أن نفعل، نصلي يوميًا أمام أبواب المسجد، ونتطلع إليه بعيون باكية دامعة، ولكنها ظروف وستمرّ بإذن الله..

صلاح: أعرف يا أخي مقدار تعلقك بالأقصى، وأنت الذي كنت تحضني على الاستيقاظ مبكرًا لنذهب إلى صلاة الفجر معًا، ولكني لم أعد أمتلك نفسي، كلما سمعت النداء ولا ألبيه، أشعر بأن قلبي ينفطر، وأن هناك شيئًا جليلًا قد نقص من حياتي، الأقصى يا عمر حياة بالنسبة إلينا... أتذكر في العام الماضي عندما كان جنود الاحتلال يحاولون منعنا من الاعتكاف، أتذكر كم غضبنا.. أذكر بأنك أوشكت على ضرب الضابط، لولا تدخل الشيخ أبو مروان، كلما تذكرت تعابير وجهك، أتخيل أنك الآن أسير في سجونهم، وندعو لك بالإفراج القريب، ههه..

عمر: أذكرها، أسال الله أن أستطيع رد الثأر قريبا يا صلاح، لا لا.. لا أريد الأسر، إني لا أطلب سوى الشهادة.. لقد ذكرتني برمضان الفائت، إفطارنا في الباحات، صلاة التراويح.. لحظات لا تُنسى وليالٍ لا مثيل لها، أسأل الله ألا يطول الحرمان أكثر من ذلك.

صلاح: آخ... كلما ذكرت ذلك أشعر بالانقباض مجددًا، لا أدري إلى متى ستستمر هذه الحالة..

عمر: يا صلاح اذكر الله تعالى، فما من شدة إلا ويأتي الفرج من بعدها، وأنت كنت من تعلمنا الصبر، أضحيت بائسًا، سنبصر الفجر معًا من أمام المصلى القبلي قريبًا بإذن الله، ألا تذكر كم مضى على إغلاق باب الرحمة، سنوات عديدة، ونحن ممنوعون من الاقتراب منه، وفي لحظة ما كسرنا قفل الاحتلال، وكسرنا الحاجز الوهمي الذي زرعه في نفوسنا.. أتذكر يا صلاح وجوه الشباب بعد صلاة الجمعة، عندما دخلنا إلى المصلى على رغم أنف الاحتلال، والله شعرت بقشعريرة تدب في أنحاء جسدي، لقد حفرت هذه اللحظات والصور في ثنايا الروح، لا أنساها أبدًا..

صلاح: إي والله، سنبصر الفجر قريبًا، نعم إنها لحظات لا يمكن نسيانها، وسيل الشباب ينهمر إلى المصلى، إن أعظم أفراحي كانت، يوم انتصارنا على الاحتلال في هبة البوابات الإلكترونية، ويوم فتح باب الرحمة، مع ما فينا من تقصير كبير في جنب الأقصى، أشعر بالفخر الكبير أني شاركت في هذين الحدثين..

ولكن هذه الذكريات تفت في كبدي أكثر، وتزيد من لوعة فراق هذا الحبيب الغالي، صحيح أننا نقضي وقتًا أطول مع عائلاتنا، ولكني لا أتخيل نفسي بعيدًا من عائلتي الكبيرة، في هذا القلب القريب، قلب قدسنا الحبيبة..

ولا أريد أن أكون متشائمًا، ولكن إغلاق الأقصى في هذه الظروف ليس مبررًا، وفي كل يوم هؤلاء المتطرفون يعلنون نيتهم لاقتحام الأقصى، تخيل أن يدخلوا المسجد ونحن ممنوعون منه.

عمر: كلامك صحيح أخي صلاح، ولكن المرض لا يعرف مصليًا أو غير مصلٍ، والاحتياط واجب، ربما كان من الواجب اتخاذ تدابير مشددة، فمساحة الأقصى كبيرة، يستطيع الآلاف الصلاة متباعدين، ولكن علهم أن يكون عندهم أسباب لا نعرفها.

صلاح: لن أتحدث أكثر، فأخشى الوقوع بما لا يجب..

وبعد أيام قليلة.. عمر: صلاح صلاح... أبشر..

صلاح: بشرك الله بالجنة يا حبيب، بدك تخطب؟

عمر: أي خطبة يا زلمي.. الأوقاف ستفتح الأقصى بعد العيد، الحمد لله رب العالمين.

صلاح: الحمد لله، سأسجد لله شكرًا.

مع أن فرحتي ناقصة فلا عيد من دون الأقصى، ولكن الحمد لله، نراكم قريبًا يا غالي. كل عام وأنت وعائلتك بألف خير.

عمر: وأنت بخير يا غالي، تقبل الله منا ومنكم.

دلالات

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".