حمل الإمارات بمواجهة تركيا...ثقيل ومدمّر

حمل الإمارات بمواجهة تركيا...ثقيل ومدمّر

17 اغسطس 2020
محاولات إماراتية لضرب سمعة الاستثمار والسياحة والمضاربة بالليرة التركية(Getty)
+ الخط -

يُحكى عن الراحل زايد بن سلطان آل نهيان، أنه قال للمستثمرين ورجال الأعمال الإماراتيين، وقتما احتجوا على سياسة الانفتاح ومنح رأس المال الأجنبي، ميزات وتسهيلات، توازي الممنوحة لهم، وقد تزيد "حينما ترون مستثمراً يصعد للطائرة ومعه مشروعه، أنزلوه".
حينذاك وجراء سياسة الراحل زايد، سواء الاقتصادية وتحويل الإمارات إلى مركز مصالح دولية ومطرح استثماري عالمي، فضلاً عن نأيه عن الخلافات البينية العربية، وصلت الإمارات ودبي خاصة ومنها منطقة جبل علي بعد تأسيسه، كمرفأ وجاذب للمنشآت عام 1977، لمكانة دولية وبات يعرّف جغرافياً، على بعض الدول العربية بأوروبا وأميركا، بقربها من دبي.
وبدأت الإمارات، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، تحقق قفزات سريعة وإيجابية جراء ثلاثية البنية المتطورة والانفتاح الخارجي، والأهم ربما، الابتعاد عن كل ما هو خلافي، إن لم نقل السعي لحلحلة الخلافات الخليجية وحتى العربية، على نفقة الشيخ زايد، فوصلت، جراء تلك الثلاثية، مدعومة بحرية الاستثمارات والتجارة وإعادة التصدير، إلى أوائل الدول الجاذبة وفق مؤشرات الاستثمار العالمية، وحصدت أرقاماً ومؤشرات قياسية على مستويات عدة، كحجم الاستثمارات ودخل المواطن ونسب النمو، حتى انقلب الخلف" عيال زايد" بعد وفاة "الشيخ المؤسس 2004" وغلبت ضبابية شكل الحكم ومستويات سياسة الدولة، إثر تغييب الرئيس "خليفة بن زايد" وسطوة الابن الثالث لزايد، محمد، على قرارات الدولة وبدء تسلل أولاده، كما رأينا نهاية العام الماضي- مجرد مثال على ذهنية التملك والاستبداد- ترقية اثنين من أبناء ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد لمناصب قيادية، خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، فضلاً عن مهامه العديدة، منها، رئيس جهاز أمن الدولة بمرتبة وزير، تم تعيينه رئيساً لمكتب أبوظبي التنفيذي، وتعيين ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، أيضاً إضافة لمهام وسلطات كثيرة، كعضوية المجلس التنفيذي ورئاسة ديوان ولي العهد.

وهنا وجراء هذا المثال، لا نومئ لسيطرة الأسر الخليجية الحاكمة على مفاصل الدولة والاقتصاد، إذ قد يكون ذلك من منظور البعض، طبيعياً ضمن حكم ملكي أو عائلي، بل ابتغينا الإشارة لقطع العقد الاجتماعي وحتى السياسي، الذي آثر الراحل زايد على صلته خلال بناء الدولة، عبر إشراك الكفاءات، وإن بقي الضوء والقرار الأعلى، حكراً على "آل نهيان ومن ثم آل مكتوم".
وربما الانقلاب الأهم بدولة الإمارات ما بعد زايد، تجلّى، بعد الخلل والإخلال بالعقد التشاركي الداخلي، عبر نسف الوظيفة والحلم، لنمو وتنمية الدولة، والانسياق وراء "دور وظيفي" خارجي، أسه الوهم بلعب دور إقليمي وأساسه الارتباط والحيلولة دون الوفاق والتطور بالمنطقة، ليفقع ذلك الدور مع بداية ثورات الربيع العربي ووساطة بن زايد بين محمود عباس ومحمد دحلان، وينتقل الثاني إلى أبوظبي، ليبرز اسمه وابن زايد كأحد قادة الانقلاب بمصر عام 2013، ويبدأ مشوار الإمارات وأدوارها الوظيفية الملتبسة، إن لحلم العرب بحرية وكرامة وديمقراطية بعد ثورات الربيع، أو حتى لالتئام خليجي، اقتصادي وسياسي.
وهذه ربما، كانت أولى نقاط الاختلاف مع تركيا، التي آثرت الوقوف إلى جانب لفحات الحرية العربية ودعمت الثورات بسورية ومصر وليبيا وتونس واليمن، وأخذت موقفاً مبدئياً، ولم تزل، من الانقلاب على حكم أول رئيس مدني منتخب بتاريخ مصر، أفرزه الشعب المصري والصناديق بعد ثورة 25 يناير. 
ربما، لأن حزب العدالة والتنمية التركي الذي وصل للحكم نهاية عام 2002 قد حسم قراره، بعد تصفير المشاكل مع الجوار، الامتداد عربياً وأفريقياً، بعد يقينه أن إقصاءه عن الاتحاد الأوروبي، هو قرار متفق عليه ولا يتعلق بقضايا حكم الإعدام والحريات والأرمن وغيرها مما يشاع خلال تعطيل دخول تركيا الساعية للاتحاد منذ 1987 واليقينية التي أكدها آخر تقرير للمفوضية الأوروبية العام الماضي" انزلاق تركيا للحكم الاستبدادي، يلاشي آمال تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي".
لينفجر الخلاف إبان محاولة الانقلاب الفاشل بتركيا، منتصف يوليو/ تموز 2016، وقت ألمح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان "نعرف أي دولة خليجية كانت سعيدة ليلة الانقلاب" وذلك على إثر التعاطي الإعلامي للمنظومة الإماراتية والممولة من حكومة أبوظبي، ليشير وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو أن "دولة مسلمة موّلت الانقلاب بثلاثة مليارات دولار" بعد كشف تسريبات لإيميلات سفير الإمارات في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة.
ويستمر الخلاف، رغم عدم وجود ملفات خلافية ومباشرة بين البلدين، من خلال تغني الإمارات أنها ركن أساس فيما يسمى "محور الثورة المضادة" ووقوفها العلني ضد تركيا، إن حول الداخل التركي، عبر محاولات ضرب سمعة الاستثمار والسياحة والمضاربة، بأشكال مختلفة، لانهيار العملة التركية.
أو على صعيد مصالح تركيا التي تراها، بسورية وليبيا، من خلال دعم الديمقراطية وإنهاء الاستبداد" أبوظبي تمول وتدعم خليفة حفتر بليبيا، وتمول وتدعم ما يسمى "قوات سورية الديمقراطية"، في حين ترى أنقرة أن الأول انقلابي على حكومة الوفاق الليبية الشرعية وتصنف من وراء "قوات سورية الديمقراطية"، حزب "البي كي كي " منظمة إرهابية" ليصل الخلاف جراء هذه الخلافات، فضلاً عن موقف تركيا من حصار قطر من حلف "الإمارات، مصر، البحرين والسعودية" إلى درجة المواجهة ما قبل المباشرة، وقت تعلن الإمارات عدائها واستهدافها تركيا ومصالحها، عبر ضرب الاقتصاد والعملة والمشاركة في البيان الخماسي الذي ندد بأنشطة تركيا في شرق المتوسط، رغم أن الإمارات لا تطل على المتوسط ولا تتأذى من مساعي تركيا للنفط والغاز وعدالة اقتسام الثروة.

أسواق
التحديثات الحية

هنا، وبالإضافة إلى ما تراه تركيا من "إدمان أبوظبي" السعي لعدم استقرار المنطقة وبث الفوضى، كما قال وزير الخارجية جاووش أوغلو، صدر وعيد تركي رسمي، عن وزير الدفاع، خلوصي أكار قائلاً: "الحساب في الزمان والمكان المناسبين".
والسؤال الذي بدأ يكثر طرحه وعلى غير مستوى ومكان، كيف يمكن أن يكون الحساب التركي لأبوظبي، إن كانت جميع الترجيحات، تستبعد أي مواجهة عسكرية مباشرة، ليس للإمارات طاقة لها أصلاً، أمام ثاني أكبر جيوش الناتو الذي رعى مصالح اقتصاد أنقرة وحقوقها، بقوة البوارج إن لزم الأمر، كما رأينا أخيراً مرافقة سفينة" أروج رييس" للأبحاث، خلال قيامها بأنشطة التنقيب شرقي البحر المتوسط.
ما يضع الاقتصاد، أو المناوشات بالوكالة، الطريقة الأكثر احتمالاً، لمواجهة لا تسعى لها أنقرة بواقع تعدد الجبهات بعد دخول ليبيا وغاز المتوسط، لكنها لا تتهرب منها، إن تم فرضها أوروبياً أو أميركياً، لتكون أبوظبي كما كانت القاهرة الشهر الماضي، رأس حربة بالحرب على تركيا.
المفاجأة، ربما أن العلاقات الاقتصادية بين تركيا والإمارات، ليست سيئة كما السياسية، بل يزيد حجم التبادل التجاري العام الماضي عن 7.8 مليارات دولار، وإن تراجع بفعل تصاعد الخلافات، عمّا كان عليه 2017 وقت اقترب من 15 ملياراً.
ليأتي السؤال عن مستقبل العلاقات الاقتصادية وقوة كل من البلدين، بحال تزايد الصراع ووصل إلى "محاسبة تركيا للإمارات" بواقع إعادة تأكيد أنقرة على ضلوع أبوظبي، بدور دعم التنظيمات الإرهابية والمرتزقة وأنشطتها الرامية لتقويض الاستقرار في الدول الإسلامية، إلى جانب تخطيطها لتنفيذ انقلابات.
أول القول الاقتصادي أن سعر صرف العملة، لا يدلل ولا بأي شكل، على قوة الاقتصاد ومتانته، فأن يكون سعر الدرهم الإماراتي 0.27 مقابل الدولار وقرابة 2 ليرة تركية، فهذا لا يعطي أي مؤشر، اللهم بعض الثقة، أو مزيدها للمستثمرين والمدخرين، خاصة إن كانت العملة، كما التركية تتراجع باستمرار.
وأما إن نظرنا إلى حجم الدين العام مقارنة للناتج المحلي والقدرة على التسديد، ففي ذلك بعض الدلائل الأقوى، على مستقبل الاقتصاد والاستثمارات. 
بمعنى، ترى الإمارات بديون تركيا الخارجية، والتي لا تزيد عن 30% من ناتجها الاجمالي، المصيدة الأساس للإساءة لليرة والاقتصاد التركي، في حين يمكن تركيا، وإن سعت كما الإمارات إلى الاستدانة من صندوق النقد أو سواه، أن تزيل تلك الشبهة والتي لم تفعل، لئلا تقع كما الإمارات وسواها، تحت وطأة شروط الدين وإملاءات الدائنين.
هذا إن لم نقل، إن ديون حكومة دبي وشركاتها-مصدر الضوء والسمعة الاماراتية- زادت عن 135 مليار دولار، أي 125% من الناتج المحلي للإمارة، وإن إمارة أبوظبي، بعد تراجع أسعار النفط، تلهث للديون، آخرها طرح سندات سيادية متعددة الشرائح بنحو 10 مليارات دولار.
والركن الثاني للعمل إماراتياً، على ضرب الاقتصاد والليرة التركية، اقتراب فترة سداد الديون، متناسية أن موعد تسديد قسم من الدين التركي هو نفس مواعيد سداد 50% من ديون الإمارات، حتى نهاية العام 2021.
وأما السياحة والاستثمار، وما تعزف عليه الإمارات، كنقطتي ضعف وتأزم ستحيقان باقتصاد تركيا، فالحال هنا من بعضه عالمياً، بعد أزمة وباء كورونا، وإن كانت تركيا الأسرع تعافياً والأكثر استرداداً للسياح، ولم يخرج عنها، كما قال المستثمرون الإيرانيون والسعوديون، وهم أسباب نهضة الإمارات، بأنهم غادروا أو بطريقهم، بعد الحظر الأميركي على إيران.

ولعل الأهم بمؤشرات المقارنة بين اقتصاد ناشئ يتعلق ويسير بقوة نحو المرتبة العاشرة خلال مئوية تأسيس دولته، وبين اقتصاد هش يخفي وراء الأبراج الشاهقة أزمات مالية وسياسية ستنفجر لا محالة، هو النظر إلى المجتمعي والإنفاق الحكومي خلال الأزمات.
ففي الوقت الذي تطرد الإمارات المقيمين وتخفض الأجور وتستغني عن نصف العمالة، منعت تركيا أي شركة أو مصرف من الانهيار ورفعت من الرواتب والأجور. واستمرت حدودها باستقبال الخائبة أحلامهم بأوطان ودول الربيع العربي، بعد أن أجهضتها الثورات المضادة التي تقودها الإمارات.
خلاصة القول: إن كان أسوأ ما يحصل خلال الأزمات بين الدول، هم من يذكون تلك الخلافات ويؤججون أوارها، فإن الأسوأ، تلك الدول الصغيرة، بسكانها واقتصادها وعقول قادتها، التي تؤثر على تأجيج الخلافات للقيام بدور وظيفي خارجي، فتسيء للحالمين، دولاً وشعوباً، من دون أن تحقق سوى شراء العداء وتحقيق مصالح مكلفيها وظيفياً.
ورغم أن الأمل معقود على وفاق بإقليم محكوم بالضياع والاستبداد، وأمان بوصول تركيا لحلمها لتكون داعماً لأحلام شعوب المنطقة، بيد أن مواجهة يمكن أن تدفع إليها الإمارات مع تركيا، لن تكون من التكافؤ ما يمنحها مبرر المقارنة، سواء على صعيد العوامل المادية، من قدرة اقتصادية وعسكرية وحيوية، أو عوامل معنوية كالقدرة السياسية والقومية والدبلوماسية.

المساهمون