جائزة الكتابة الكبرى

جائزة الكتابة الكبرى

24 فبراير 2015
+ الخط -
كنتُ أظن حتى وقت قريب أنَّ الجوائز العربية ستساعد المبدعين العرب على تخطي الفقر وتمنح أولئك الذين لم يكافئوا من قبل بما يليق بإنتاجهم الإبداعي راحة نفسية، لأنّهم سيجدون من يقدِّر منجزهم، لكنني اكتشفت أخيراً أن ظني لم يكن، كلّه، صحيحاً، إذ بدا لي أن هذه الجوائز قد تدفع بالبعض إلى الجنون بدلاً من الراحة النفسية. وهذا ما لاحظته في الاهتمام الكبير بهذه الجوائز من قبل بعض الأدباء، وكأنّهم بدونها لا يستحقون أن يحملوا صفة الأديب.
بالأمس حاولتُ أن أخفف من ألم لحق بصديق، لأن روايته لم تحقق الفوز المرجو، ومن أجل تعزيز مواساتي له بحثتُ في الكتب عن شهادات تشير إلى أنَّ الجوائز لا تستحق كلّ هذا الاهتمام. وكان أوّلها ما قاله الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا الحائز على نوبل للآداب، لروائي شاب، في كتابه "رسائل إلى روائي شاب"، إذ قال: "لا تبن أوهاماً كبيرة بشأن النجاح. مع أنه ليس هناك، بالتأكيد، سبب يمنعك من تحقيقه. ولكنك ستكتشف سريعاً، إذا ما واظبت على الكتابة والنشر، أن الجوائز، والاعتراف العام، ومبيعات الكتب، والسمعة الاجتماعية للكاتب، لها مسار من نوعها، مسار تعسفي إلى أبعد الحدود؛ فهي تتجنب، بعناد أحياناً، من يستحقها بجدارة كبيرة، وتحاصر من يستحقها أقل، وتثقل عليه. وهكذا يمكن، لمن يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى انهيار حلمه وإحباطه، لأنّه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكتّاب (وهم محدودون). والأمران مختلفان".
وإذ لم يرق رأي يوسا كثيراً لصديقي رحتُ أبحث عن آراء من أولئك الكتّاب الذين أشترك معه في إعجابي بهم، ومنهم وليم فوكنر، فكان لي أن لقيت رأياً له يقول: "‬احلم دائمًا وارفع سقف طموحاتك فوق قدراتك‮. ‬ولا تزعج نفسك بالمنافسة مع معاصريك أو أسلافك‮. ‬حاول أن تكون أفضل من نفسك"‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ويضيف فوكنر أن "‬الكاتب ليس في حاجة إلى رأس مال،‮ ‬كلّ ما‮ ‬يحتاج إليه هو قلم رصاص وورق‮...‬ فالكُتّاب الجيدون ليس لديهم وقت لإزعاج أنفسهم بالنجاح أو الغنى‮. ‬فالنجاح أمر أنثوي‮ ‬يشبه النساء،‮ ‬إذا تذللت أمامها سفوف تتخطاك لذا لابد أن تتعامل معها بظهر‮ ‬يدك،‮ ‬وبالتأكيد ستزحف إليك‮". ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أجابني صديقي بأن الحال في العالم العربي يختلف تماماً عن واقع هؤلاء الكتّاب، معتقداً أن حالنا يشبه حال ديستوفسكي أكثر، الذي كان على عكس فوكنر لا يقترض ليكتب، بل يكتب ليسدّد ديونه، ومن ذلك ما عُرف عنه أنّه اضطر إلى كتابة رواية في ثلاثين يوماً من أجل تسديد أحد ديونه.
وإذ اتفقت مع صديقي على أهمية أن تعطى هذه الجوائز للمبدعين بدون إذلال لتحفّزهم على مواصلة الكتابة، فإن ما قاله عن وجود شك لديه بوجود فاسدين في مؤسسات الجوائز العربية، يمنحونها، عبر لجان التحكيم التي يتدخّلون بتشكيلها، لمن أرادوا وبحجة تلبية الشروط الإبداعية، أثار لدي الكثير من التساؤلات، فما يبدو لي أنّ هذه الجوائز ليست بعيدة من المساءلة والنقد، فبالرغم من أن لكل جائزة أهدافها وقوانينها وشروطها، إلاّ أن ليس من السهل لأي جهة مانحة للجوائز أن تعطي جائزة بحسب هواها الخاص؛ فالجائزة باعتبارها إحدى الفعاليات الثقافية التي تهم كل المجتمع وليس المؤسسة المانحة لها فقط، تظل مراقبة من الأوساط الأدبية والقراء سواء عند الإعلان عن المرشحين لها والفائزين بها أو الإعلان عن قوائم الكتب المرشحة إذا وجدت، بل وتكون لجنة التحكيم نفسها محل مساءلة وجدل، وأي قرار تتخذه سيقابل بقراءة من القُراء الذين لهم رأيهم أيضاً في العمل الذي يستحق الجائزة.
وإذا كانت بعض الجوائز قد قامت بتقليد جوائز عالمية شعبية بتشكيلها لجان تحكيم من كل الفئات، أو غير متخصصين، مراعاة لتعدد الأذواق، فإنّ الحال الثقافي في العالم العربي يبدو لي لا يشجّع على هذا التقليد، فاختياراتها للكتب المرشحة أو الفائزة لا تلقى رضى لدى أكثر الكتّاب، ومنهم صديقي، فقراءة الرواية، مثلاً، غير منتشرة حتى تؤهل أي لجنة غير متخصصة أن تختار تبعاً لذوقها الروايات التي تستحق الاحتفاء والفوز، إذ ما زلنا، كما أظن، بحاجة إلى أن تكون هناك لجان متخصصة، من الكتّاب والنقاد، ليكون اختيارها للروايات الفائزة نموذجاً، حيث وأن الفنّ الروائي في العالم العربي ليس فيه تجارب تراكمية ملفتة ويبدو كأنّه مازال في طور التأسيس. لهذا فإنّ الاهتمام بالتجارب الحديثة المتكئة على خبرات تقنية تتجاوز التعثرات الأولى للرواية العربية، سيشجّع الكتّاب على المضي في تجاربهم الفنّية ليضيفوا منجزهم الجديد للفن الروائي، وهو المنجز الذي يظل بمثابة الجائزة الكبرى لهم، ولا تضاهيه أي جائزة أخرى.

المساهمون